العراق: السيناريو الضائع بين كمّاشتي العنف والديمقراطية

TT

الزلزال الذي يكاد يعصف بالعراق ليحوله الى عصف مأكول، عن طريق اشعال نار فتنة طائفية وحرب أهلية، والتي أصبح وشوك وقوعها قاب قوسين أو أدنى حوّل مسار الحرب الدائرة الى حرب جديدة، سمّيت بحرب المساجد والأضرحة، بعد الاعتداء السافر الذي طال قبّة الإمامين عليّ الهادي والحسن العسكري في سامراء، على يد الغدر والكفر الصدامي والتكفيري، في محاوله لم تصب الاّ لصالح المستفيد الذي يريد أن يرجع البلد الى المربع الاول ونقطة الصفر.

لا اعتقد بعد هذا الحادث، وبعد وضع القيود والعراقيل من قبل تيّارات مسنودة من الادارة الامريكية أمام كتلة الأغلبية لتشكيل حكومة وطنية، أن المواطن العراقي يحتاج الى جهد كبير ودرجة من الذكاء حتى يميّز ويقيّم طبيعة ونسيج الساحة والمشاهد السياسية الجارية، خلف جدران اروقة المنطقة الخضراء. مع ذلك فهناك اسئلة من شاكلة: من يقف وراء هذه العراقيل.. ومن هو وراء تفعيل القرارات.. وهل ان الولايات المتحدة هي فعلا على قدر من المسؤولية الاخلاقية لنشر الديمقراطية وحفظ الامن في العراق..؟ وهل انها تظهر دموع الحزن وتنتحب طوال الليل على ما حلّ بهذا الوطن ذي الحضارة العملاقه في التاريخ.. وهل تراها مصابة بصدمة الفوضى الأمنية في النهب والسلب والتفخيخ والتفجير والقتل وهدم بيوت الله وتفجير أضرحة آل بيت رسول الله التي حوّلت العراق الى ساحات ركام ودمار وحمّامات دم يقتات بها الجائعون من كلّ حدب وصوب.. موت يباع ويشترى في الطرقات حطّم العراق فيه الرقم القياسي في درجة الخطورة امام دول العالم الباقي.

نعم بات مكشوفا لكل العراقيين من الذي يقف وراء الفوضى الامنية وعدم الاستقرار، فلمصلحة من يذبح العراق كل يوم خاصة وان الحضور اليومي والمكثف للسفير الامريكي زلماي متزعما الكتل السياسية في الاجتماعات، متحركا بصلاحيات المندوب السامي المكلف، ومثيرا الفتن الطائفية والتناحرات بين السياسيين وهو من يريد ان يرسم ويحدد شكل الحكومة المستقبلية كما تشتهي الاصابع الامريكية، مذكّرا بالضرائب التي يتحملها المواطن الامريكي لأجل انشاء قوى امنية عراقية خالية من التطرف المذهبي حسب ادعائه، متناسيا انها بالأصل اموال عراقية يخسرها المواطن العراقي كل يوم عن طريق سرقة ثرواته النفطية مرّة، ومن عقود وهميّة مرّة اخرى، كلّفت العراق خسارة (9) مليارات دولار في فترة الحاكم المدني بول بريمر، وكان قد اعترف امام حشد من الطلاب (انها اموال عراقية ولا داعي للقلق)، ردا على سؤال وجّه اليه من قبل طلاب احدى الجامعات الامريكية. ولا زال النفط العراقي يهرب بكلّ وسائل الالتفاف والدجل، عن طريق عدم تنصيب عدادات رقمية تدّون كميات النفط المنتجة والمصدرة مستفيدة من ورقة الطائفية، وتمرير كلّ الاوراق الرابحة اقتصاديا وسياسيا وإقليميا، لن يكون الخاسر فيها الاّ الشعب العراقي. كما ان السيد زلماي لا ينسى من كان وراء سرقة المتحف التاريخي العراقي، وتهريب كنوز حضارته العريقة، وهناك تقرير نشرته صحيفة الفايننشيال تايمز البريطانية مؤخرا، يشير الى انّ هناك قطعا ذهبية تعود الى الديكتاتور صدام كانت قد وجدت في قصوره قدّرت بملايين الدولارات متواجدة الآن في الولايات المتحدة.

الآن من المضحك والغريب ان يخيّر الرئيس الامريكي بوش الشعب العراقي ما بين الفوضى والوحدة. وما بين مجتمع حر ومجتمع يتسلط فيه الاشرار، مؤكدا انّ هناك من يحاول زرع بذور الفتنة بين ابناء الشعب العراقي متناسيا من كان وراء هذه الفتنة والاحتقان الطائفي، وهذا الدم المسفوح كلّ لحظة، ومتناسيا ان هناك قوانين دولية تلزم الدولة المحتلّة بضرورة تأمين الحماية الكاملة للبلد المحتل، وإذا لم يعترف الرئيس بوش انّ قواته جاءت محتلّة، بل انها جاءت مصدرة للديمقراطية ونشرها، فالواقع يؤكد غير ذلك، فلا يمكن للديمقراطية ان تستورد عن طريق الحرب والغزو. كما انّ الديمقراطية هي فكر يستوعب من خلال الممارسة يستند إلى مبادئ عقلانية راسخة متجردة من الانانية، وقد ترتكز هذه المبادئ على مفاهيم عقائدية دينية أو مذهبية او افكار ايديولوجية سياسية تشترك معها تقاليد بيئية يشترط في كل انواعها عدم الغاء الآخر. على هذا الاساس لا يمكن تطبيقها في ارض العراق وبيئة العراق مباشرة، بعد سقوط اعتى نظام عرفه التاريخ شراسة على شعبه، دعك عن العناصر التي كمنت في الشخصية العراقية نتيجة قهر ذلك النظام، ومنها الاتجاه السلبي والسايكلوجي في كيفية التعاطي مع الآخر لمدة خمسة وثلاثين عاما، وبالتالي فإن هذه الشخصية تحتاج الى فترة زمنية طويلة لترويضها، ولتتقبل هذا المصطلح الغريب والدخيل على فكرها.

وإذا كانت الولايات المتحدة حريصة على تطبيق الديمقراطية ورفع الحيف عن الشعب العراقي، لاستطاعت القاء القبض على صدام وإنهاء حكمه بعد تحرير الكويت، خاصة ان قواتها كانت على مشارف القصر الجمهوري. لكن في ذلك الوقت كان لا بد لها ان تنتظر لأنّ المصلحة الامريكية اقتضت ذلك.

ومن الاثباتات التي تشير الى عدم مصداقية ادعاء تطبيق الديمقراطية، الخطط التي رسمتها وزارة الدفاع الامريكية لغزو العراق وإسقاط الجيش العراقي، وعدم وضع البدائل الفورية لحماية حدود العراق، فيما ركزت على حماية المنشآت والآبار النفطية فقط، ففتحت بذلك الأبواب امام الهاربين من كبار عناصر حزب البعث العراقي وبحوزتهم ملايين الدولارات، التي تم نقلها الى البنوك السورية. وبالمقابل دخول الارهابيين والتكفيريين ليعيثوا في العراق فسادا.

دول الجوار ايضا استفادت وشجعت هذه الفوضى الأمنية لحسابات سياسية واقتصادية وعقائدية، فهي لا ترغب امام المضايقات والضغوط الامريكي، ان ترى عراقا مستقرا يستطيع ان ينهض بنفسه ويعوض السنين العجاف التي مرّت به، لأنه ولذا ما استطاع ان يصدر (6) مليون برميل من النفط يوميا، فستتأثر الاسواق العالمية وتهبط الأسعار، امّا على الجانب الآخر فهناك دول اقليمية ترى انّ الساحة العراقية هي افضل الاماكن للتصفيات والاستحقاقات السياسية في مجابهة الولايات المتحدة مستعمله المواطن العراقي وقودا لها.

وممّا يثبت عدم صحة مصداقية هدف الديمقراطية للحرب على العراق، هو الاطماع النفطية والسيطرة على منابع النفط العراقي الذي يشكل ثاني احتياطي في العالم بعد السعودية. وبسيطرتها على هذا المخزون الكبير ستسيطر على منظمة اوبك والأسواق العالمية، وبالتالي ستحد من النشاط الاقتصادي المتصاعد لبعض الدول كاليابان والهند والصين، التي تعتمد في تطّوّرها على النفط الخليجي. ومن جهة اخرى هناك شركات امريكية وبريطانية خدمية ونفطية عملاقه تنتظر الوقت المناسب في العراق لتتسلم عقودا استثمارية طويلة الامد تكلف الشعب العراقي خسارة قدّرت بـ196 مليار دولار.

وممّا يؤكد هذا الطرح توفير الحماية الامنية لحقول وآبار النفط فقط اثناء الغزو. وبالاضافة الى ذلك، هناك سياسات

خاطئة كثيرة انتهجتها الادارة الامريكية في العراق، فتسببت في إعلاء وتيرة الفوضى. ففي الوقت الذي اسقطت رأس النظام وثلّة قليلة معه فقط استمرت حواراتها مع عناصر مسلّحة اشهرت السلاح بوجه العراقيين حاضرا وقديما، في محاولة لإرضائها وتنصيب ادوار لها في العملية السياسية مّما يثير غضب الشارع العراقي، ويجعله يشكك في مصداقية الديمقراطية المزعومة.

وأخيرا، فمن شبه الواضح الولايات المتحدة تتبع سياسية فرّق تسد، فهي بدل ان تنشر ثقافة الوحدة نراها تنشر ثقافة الحقد بالتفافها حول كيان على حساب كيان آخر. فدعمها لفكرة انشاء مجلس الحل والعقد المكوّن من سبعة او ثمانية اشخاص، وباقتراح من مسعود البارزاني، ما هو الا مشروع يهدف الى تقويض حجم الاغلبية، وخلق منافذ تسودها اجواء التفرقة والحساسية، تسهم في تعطيل العملية السياسية نحو تشكيل حكومة وحدة وطنية، وللأسف فكل تلك السيناريوهات، إنما تضع العراق كله وتوشك أن ترسله كاملا الى نيران العنف والفتنة الطائفية، وهو يلهث ضعيف البنية ليؤسس لحلم اسمه الديموقراطية.

* كاتبة عراقية