حرية.. رأسمالية.. وحدة..!

TT

في الأزمنة غير البعيدة كثيرا كان الشعار المعلن لحركات القوميين العرب المختلفة والمتنوعة وحتى المتصادمة في أحيان كثيرة، هو «حرية اشتراكية وحدة»، ورغم الخلاف الحاد بين الناصريين والبعثيين على ترتيب هذه الغايات العظمى، إلا أن التوافق كان على ترابطها في علاقة واحدة لا يغلبها غلاب في الأمة العربية ذات الرسالة الخالدة. ومضت الأيام والعقود، وشحب الشعار في المنتديات العامة، ولم يبق من حركات القوميين العرب إلا أصوات حسرة في المؤتمر القومي العربي، وفي برامج قناة «الجزيرة» في قطر، وفي الأروقة الشاحبة لحزب البعث الاشتراكي العربي في دمشق. ولم يكن المآل الذي وصلت إليه الحركات القومية بعيدا عن الشعار الذي انتهت الحرية فيه إلى سلسلة من السجون الممتدة ما بين طرة والمزة وأبو غريب، حتى طالت جمع الأحرار من القوميين أنفسهم، حسب الأحوال في العاصمة التي جاء منها والعاصمة التي ذهب إليها. أما الاشتراكية فقد ولّدت بيروقراطيات عتيدة عكفت بنشاط كبير على إقامة أسوار السفر والتجارة والاستثمار بين الدول العربية، وحينما زاد الإلحاح على الوحدة كان على كل بيروقراطية أن تضع من الاستثناءات فيها ما يجعلها سوقا بلا بضائع، وتوجها نحو العالم بلا بوصلة. وما جرى للوحدة بعد ذلك صار ذكرى، فما كان بين سوريا البعثية ومصر الناصرية معروف، وما كان بين بغداد ودمشق موثق ومعلوم، وما جرى بين الجميع كان شهادة انقسام وفرقة بلا حدود.

والحقيقة أن الفكر القومي العربي ظل حائرا طوال العقود الماضية بين «وحدة الصف» و«وحدة الهدف»، وبين إقليم «القاعدة» الذي يقود الجموع والدول إلى الوحدة وتحرير فلسطين وتحدي الطغيان على المستوى الكوني، والحزب «القائد» الذي يستطيع بالنقاء الثوري والفكر النابه للزعيم المختار أن يصل بالأمة إلى أهدافها السامية، لكن هذه الحيرة وصلت إلى نهايتها على أي الأحوال بعد أن تفرغ القوميون للطم الخدود وضرب الصدور على أحوال الأمة الحزينة والمتردية والرمادية، وبعد أن أصبح الإنقاذ قادما من قوى سياسية أخرى إسلامية طالما وضعها الرفاق في السجون، أو من عواصم أخرى في الهند والصين لعلهما يعيدان ترتيب الموازين الدولية ويعيدان النظام العالمي إلى سيرته الطيبة الأولى حيث لا قيادة ولا هيمنة من الولايات المتحدة.

لكن ربما يكون هناك طريق آخر للقوميين العرب على اختلاف طبعاتهم، ويأتي الإلهام فيه من جهة غير منتظرة على الإطلاق، خاصة للمشارقة الذين اعتادوا أن تأتي الدعوة العربية من القاهرة أو بغداد أو دمشق، بينما تلعب بيروت دورا تعبويا دعائيا وإعلاميا بالأصالة عن نفسها أحيانا وبالوكالة عن آخرين في أحيان أخرى. فما جرى من دبي خلال الأسابيع القليلة الماضية ربما يكون موحيا لاتجاه للعلاقات العربية ـ العربية، يقوم بالفعل على تلازم بين الحرية الفعلية للأفراد، مع اقتصاد السوق القائم على المنافسة، لتحقيق ارتباطات عربية وثيقة قائمة على مصالح متزايدة.

وكانت بداية القصة ليس بين دبي والعالم العربي، بل بين دبي والولايات المتحدة نفسها وبجلال قدرها التجاري والاقتصادي والتكنولوجي حينما حصلت شركة موانئ دبي العالمية على حقوق إدارة ستة موانئ أمريكية عملاقة. ورغم أن القصة قد غلب عليها ما جرى في الولايات المتحدة من احتجاجات واعتراضات حول قدرة الشركة على الحفاظ على أمن الموانئ، إلا أن القصة فيها ما هو أكثر من ذلك. فنحن أولا أمام شركة عربية تمكنت بالقدرة الفنية والإدارية والرأسمالية على أن تكون شركة عالمية، وبعد أن بدأت انطلاقها في عام 1999 من مقرها المحدود في ميناء دبي، أصبحت تقدم خدمات رفيعة في عملية الشحن والتفريغ للحاويات والإمدادات وإدارة المناطق الحرة والمطارات في موانئ كوسيدو (جمهورية الدومنيكان)، وبورتو كابيلو ( فنزويلا)، وجيرميرشيم ( ألمانيا)، وكونستانتا (رومانيا)، وطنجة (المغرب)، وجدة (السعودية)، وجيبوتي (جيبوتي)، والفجيرة (الإمارات)، وموانئ كوشين وفلارابادم وفيزاخاباتهام (الهند)، وشانغهاي ويانتين وهونج كونج وتانجين ويانتاي (الصين)، وبورت كلانج (ماليزيا)، وبوسان (كوريا الجنوبية)، وأديليادو (أستراليا). ونحن ثانيا من خلال هذه القائمة نعلم أن هذه الشركة تقوم بالفعل بعمليات للشحن والتفريغ للحاويات وغيرها من الأنشطة في موانئ جدة وجيبوتي وطنجة العربية في السعودية وجيبوتي والمغرب.

هنا فإن القضية ليس فقط وجود شركة تقوم بمهمة قد تقوم بها شركات أخرى، لكن القضية هي خلق لغة عمل مشتركة، وسوق واحدة لها قوانينها وقواعدها، وفي هذه الحالة فإن اللغة العربية التي قام عليها فكر القوميين العرب التقليديين تكف عن كونها حالة ثقافية تخص النخبة، إنما تصبح أداة اتصال عملية في شؤون الحياة والعمل والإنتاج التي تصل إلى قواعد واسعة من العرب. وفوق ذلك كله فإنها تنسج علاقات شخصية، ومصالح مترابطة تكون بطبيعتها مقاومة للحساسيات القطرية وطاردة للعصبيات الدينية والوطنية. وببساطة فإن مثل هذه الشركات كانت اللحمة التي خلقت العلاقات التي وضعت دعائم الاتحاد الأوروبي رغم تعدد القوميات، بل وحتى الوحدة الفيدرالية الأمريكية رغم تعدد الأجناس والأعراق، والوحدة السويسرية رغم تعدد اللغات واللهجات.

فما تحتاجه كل الدول العربية تقريبا هو أن يكون فيها حرية اقتصادية من الطراز الأول، وليس سرا على أحد أن الدول العربية لا تزال حتى الآن رغم كل الأحاديث عن «الخصخصة» دولا ذات اقتصاد عام في المقام الأول، بمعنى أنه اقتصاد تملكه الحكومة وتتحكم فيه البيروقراطية. وعندما يفتح الباب لرأسمالية حقة فإن فتح الأبواب لها في كل الدول العربية، كما تفتح لها أبواب العالم كما رأينا في حالة شركة موانئ دبي، فإن الوحدة سوف تأخذ مجراها حينما يصير التفاعل والبيع والشراء والاستثمار والانتقال من الكثافة إلى الدرجة التي تصير فيها السوق موحدة. فالوحدة العربية ليست اتفاقات سياسية تعقدها الحكومات، وليس اتفاقيات تجارية تجهضها البيروقراطيات، إنما هي في النهاية حركة بشر وشركات واتصالات ومواصلات.

والحقيقة أن شركة موانئ دبي ليست هي المثال الوحيد، فهناك العديد من الشركات السعودية في مجال المقاولات ـ بن لادن ـ التي تعمل بامتداد العالم العربي بأسره، وهناك شركات كويتية ـ الخرافي ـ تعمل في مجال الخدمات تنشر أسواقها ومجمعاتها بين المحيط والخليج، وهناك شركة اتصالات مصرية ـ أوراسكوم ـ تعمل في أكثر من بلد عربي وأجنبي، لكن مشاكل هذه الشركات وقدراتها على التوسع في العمل كثيرا ما تأتي من الظروف العربية التي ترتفع فيها ضرورات النضال على حتميات الاستثمار، ومن ظروف البلد الأم التي ترى في الشركة ذراعا للدولة أكثر منها وحدة إنتاجية في سوق عالمية، ومن ظروف الدولة المضيفة التي ترى في الشركة العربية مثل الأجنبية نوعا من أنواع الغزو الثقافي والاقتصادي.

لكن مهما كانت المشكلات والعقبات فإن الفكر القومي العربي لديه فرصة جديدة لكي يحقق أهدافه المجهضة من خلال أفكار تأتي من دول عربية جرت العادة على استبعادها، وربما كان ما لا يقل أهمية عن الأفكار السياسية أو حتى الثروة النفطية تلك القدرة على الإدارة والاستثمار وفق مقاييس عالمية. ولن تكون البيروقراطية ولا الانقلابات العسكرية هي أداة الوحدة، إنما الرأسمالية، فمن يقبل التجديد؟.