العراق.. «يا نار كوني برداً وسلاماً»

TT

تسارع العنف الطائفي الأخير أثبت فشل إدارة الشأن العراقي عن طريق أحزاب الطوائف لا أحزاب المواطنة. وستشب نار مَنْ يذكيها لزعامة لا يجد مَنْ يتزعمهم، ومَنْ أرادها لسيادة مذهب لا تحقق له سياسة القبول بالأمر الواقع «الناس على دين ملوكها». ومَنْ يتمترس بالأكثرية اليوم ستنفضَّ من حوله غداً. أخذ التفاؤل بالحصانة من الفتنة يتضاءل أمام خطاب لا يستثمر من تجارب الأيام الخوالي سوى نماذج الكراهية. خطيب يقوم بدور الشاعر السيد الحميري (ت 173هـ) المتطرف تشيعاً، وآخر يتقمص دور الشاعر علي بن الجهم (ت241هـ) المتطرف تسُنَّناً. وفي اللغة الطائفية المحمومة كان الأول رافضياً، والثاني ناصبياً.

وسط تسعير الشعور الجمعي بالعداء، لا أحد يذكر لأبي حنيفة النعمان (ت150هـ) دعمه للتحرك الشيعي: زيد بن علي، ومحمد بن عبد الله بن الحسن المثنى، وأخوه إبراهيم. على أساس أن هؤلاء ليسوا على توافق مع الإمام السادس جعفر الصادق. ولا يريد أن يذكر لمحمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ) تعلقه العلوي، حتى قال: «إن كان رفضاً حب آل محمد...». وتناسى الطرفان «التكية الخالدية»، يوم توافد علماء السُنَّة على كربلاء (1922) تضامناً، عندما تعرضت مراقدها لاعتداء. ولم يعرف جعفر أبو التمن أن مولود مخلص التكريتي ناصبي، عندما أسس معه حزباً، ولا وجيه تكريت أشار إلى أبي التمن بالرافضي؟ والسبب أن حزبهما كان حزباً عراقياً وكفى.

كان عامة سُنَّة وشيعة بغداد أكثر عقلانية من سياسيي الطائفتين اليوم، عندما توحدت كلمتهم ضد حاكم بغداد أبي محمد النَّسوي العام 442هـ. «وكان فاتكاً، فاتفقوا على أنه متى رحل إليهم قتلوه، واجتمعوا وتحالفوا، وأُذن بباب البصرة (مكان للسُنَّة) بحي على خير العمل (العبارة الشيعية في الأذان). وقُرئ في الكرخ (مكان للشيعة) فضائل الصحابة. ومضى أهل السُنَّة والشيعة إلى مقابر قريش (المرقد الكاظمي)، فعُد ذلك من العجائب، فإن الفتنة كانت قائمة والدماء تُسكب« (النجوم الزاهرة). كان الحكم آنذاك بيد البويهيين، وهم شيعة، لكن ثورة شيعية قامت ضدهم، بإمارة معين الدولة عمران بن شاهين. خرج بين بردي وقصب أهوار جنوب العراق العام 338هـ، وظل مصدر قلق للبويهيين حتى وفاته السنة 369هـ (تجارب الأمم)، وكان اللاجئون لديه قضاة ووزراء وخليفة من أهل السُنَّة (التنوخي، الفرج بعد الشدة). وفقاً لهذا المثال، هل يتصور أصحاب مقصد الدولة الشيعية، أوالسُنَّية، أنهم سيحققون حلم البشر في دولتهما؟ وأن مذهبية أو طائفية السلطة ستغدو دولة «إخوان الصفاء وخلان الوفاء»، ولم يخرج عليهم ثائر، ما داموا احتكروا السلطة لمذهبهم أو طائفتهم؟

إن حرف الخلاف بين الشيعة والسُنَّة من مقالات الفقه والفكر إلى مقالات السياسة، وربطها بما حدث بموجعات الماضي، ثم سكبها في أدمغة الأتباع بهذا التوتر، هو إيقاد فتنة حطبها السُنَّة والشيعة، ومَنْ جاورهما لمئات السنين. أُذكَّر، من أجل الوقاية لا الاتهام، بخطاب هيئة علماء المسلمين، وما تنشره في جريدتها «البصائر»، من تشدد إن أُخذ به سيزلزل العراق زلزاله. كتابات ملأى بالكيد والضغينة، ولم تسم مواطنيها، والشرائح التي في السلطة، إلا بالفرس والعملاء والشعوبية، وتوزع العمائم إلى فارسية شيعية وعربية سُنَّية. تتهم شيعةً بالقتل على الهوية، وكأن العراق خالٍ من الإرهابيين! وإذا افترضنا أن السلطة (الشيعية) قتلت علماء الهيئة وأئمة المساجد من أهل السُنَّة، فمَنْ قتل المئات على طريق اللطيفية؟ ومَنْ قتل نواب مرجعية النجف، ومَنْ فجر مواكب العزاء، وقتل محمد باقر الحكيم؟ ويواصل قتل الشرطة والجنود، وتفجير أسواق الأحياء الشيعية؟ أسئلة كثيرة تطرح على هيئة علماء المسلمين، وهي التي اُستبشر أن تلعب دوراً في جعل نار الفتنة «برداً وسلاماً»، لا تحطب لها حطباً.

وعلى المنوال نفسه تساهم الفضائيات الحكومية منها والحزبية: «العراقية» و«الفرات» بالتحديد في شحن الأجواء، بقصص تاريخية لقضية عاشوراء، وغيرها. وكأن قاتل الحسين ما زال متخفياً في مكان ما بالعراق. ناهيك من إشاعة العزاء الحسيني في الوزارات مؤسسات التعليم. مواكب تقودها التكوينات الدينية تبجحاً بالهيمنة. تشعر الأجواء الشاذة الآخرين أنهم يعيشون في دولة ستأخذهم بدم الحسين، إن اعترضوا على رفع راية سوداء على سطح دار، أو نشرها على بوابة جامعة.

أرى التسُنَّن والتشيعَ الشعبيين، خارج الأحزاب الدينية، أكثر حرصاً وسلامة نية من المتحزبين والمصادرين لعواطف الطائفتين: اتفق العراقيون بأديانهم ومذاهبهم على إحياء عيد خضر الياس، وتسيير الشموع في الأنهر بمشاهد بهية. واتفق المذهبان على التبرك بالمراقد المقدسة. والذكر الصوفي السُنَّي والعزاء الشيعي اتفقا على التطريب بقصيدة واحدة «الحسينية». لا يسأل أحد عن مذهب شاعرها: «خيرة الناس من الدنيا أبي.. بعد جدي فأنا ابن الخيرتين».

قد لا تجد هذه الأمثلة مكاناً لها وسط الشحن الطائفي، رغم أنها كانت تعبيراً عفوياً عن قيمة التعايش، واعترافاً بعراق أوجده التوازن. يخترقه دجلة والفرات، من أعالي الجبل والهضبة حتى السهل، بتوازٍ وتوازن جغرافي وسكاني. يتهاديان حتى يمتزجا في البطيحة، ثم ينتهيا في شط عاشت على ضفافه كل تلاوين العراق الدينية والمذهبية. نهران أعلاهما بيئة الحجر وما حولها من عقائد، وأسفلهما بيئة الطين وما يناسبها من عقائد أيضاً. لا وجود للواحد إلا في السماء. وبأصالة التوازن ثبت السُنَّة بوجه الصفويين، وثبت الشيعة بوجه العثمانيين، وثبت الكُرد بوجه إبادات الدولة القومية، وثبت الباقون بوجه فتاوى قتلهم وتخليهم عن دياناتهم (فتوى الأصطخري (ت328هـ) وفقهاء الدولة العثمانية بإبادة الصابئة المندائيين والأيزيديين مثالاً).

ما تقدم كان بين الناس والدولة، ينقضي بالتقية أو بالمدافعة. لكن ما يبيت للعراق اليوم هو تدافع بين الناس أنفسهم، وهذا اختبار جديد في تاريخ التوازن العراقي. فتنة تعتاش عليها كيانات وأحزاب، وهي مشرعة الرماح. ولا تمتلك الأغلبية التي ستحترق غير الدعاء: «يا نار كوني برداً وسلاماً». ولمحمد صالح بحر العلوم طنب مع طائفية الأمس، وقد نعتها بالحية الرقطاء (1934)، وهي لم تصل حد الدماء، وما عسى أن يقال بعد قوله:

بعض العقائد وهي غاز قاتل

من نشرها تتسمم الأجواء

الدين يدعو للوفاق ويدعي

داعي النفـاق بأننا خصماء

[email protected]