القلب مربوط بخيط غير مشدود

TT

رآني في أحد الأيام وأنا جالس على الأرض مهموماً أضع خدّي على يدّي، فاقترب مني يسألني: ما بك؟!، فقلت له: قرفان، فقال: من ماذا؟!، نظرت إليه من فوق لتحت ثم أشحت بوجهي عنه ولم أجبه، ولو أنه يفهم لغة الإشارة والتعبير لعرف أنني أقول له: اتركني في حالي (وغور)، لكنه رغم لطافته إلاّ أنه (مدبّق) مثل العسل المغشوش ـ يعني (لزقة) ـ جلس بجانبي يربت على كتفي، فانتفضت قائلاً له: شيل إيدك أحسن لك، فرفعها وقال: أرجوك (فضفض) احك لي، إيه اللي شاغل بالك؟!، فتذكرت على الفور الأغنية القديمة لعبد الوهاب: (ليه تشغل بالك، مين يرحم حالك؟!).. فهدأت قليلاً، وقلت له: شكراً، إنني الآن أفضل، فقال الحمد لله: قم الآن (وسَمْ بالرحمن) واغسل وجهك، فقلت له: إنني قد خرجت لتوّي من تحت (الشور) وغسلت بعض ذنوبي.. فقال لي: الواحد ما هو (مأخذ) منها حاجة، فقلت له: مَن هي؟!، فقال: الدنيا، فقلت: آه فكّرتها وحدة ثانية، يا شيخ حركت مشاعري على الفاضي، إحنا ما لنا ومال الدنيا، فقال: هيّ فينا فينا، ووين ما رحت هيّ وراءك، فقمت من مكاني وأنا أقول: الله يستر، فتبعني وهو يقول مقترحاً: إيه رأيك لو ذهبنا إلى البحر نملأ رِئتينا من الهواء، ونستمدّ منه الكثير من (اليود)؟!، فقلت له: لا أنا أريد (آيسكريم)، لأنه إذا استبدّ لي الحزن لا يطفئه غير ذلك.. وافقني على مضض، وركبت معه في سيارته وكان (بوزي) طوله شبرين تقريباً، وقبل أن تتحرك السيارة قال لي منبّها: اربط الحزام، فقلت له: مربوط، وبعدما انطلقت السيارة التفت ناحيتي محتجاً وقال: أنا قلت اربط حزام السيارة، وليس حزام بنطلونك!، انتبهت لغلطتي المرورية فاعتذرت له بدون أي أدب من طرف لساني.

فأخذ يحدّثني متقمّصاً شخصية الناصح، وقال: هل تعلم يا مشعل أن الإنسان يجب ألاّ يكبت مشاعره أبداً، ولكي يكون سوياً يجب أن يطلق لها العنان، فقلت له: الآن علمت، واستمرّ في هذره قائلاً: وهل سبق لك أن سمعت عن الحِكمة التي تقول: كنت غاضباً من صديقي، وكشفت غضبي، فزال غضبي، وكنت غاضباً من عدوّي، فكتمت غضبي فازداد غضبي؟!، فقلت لا لم أسمعها إلاّ منك الآن، فهل معنى ذلك أن أكشف غضبي وأفجّره على عدوّي لكي يزول؟!، فقال: (بالضبط) نعم، فسألته: وهل جرّبته أنت قبل ذلك؟!، فقال: لا، قلت: لِمَ تريد أن تجعلني أنا حقل تجارب؟!، فقال: لمصلحتك، ولكي يزول همّك وغضبك، قلت: وإذا كان عدوّي ذاك يستطيع أن يُدمي أنفي، ويشعل النار تحت قدميّ، فماذا أفعل بل وماذا استفدت؟!، فقال: إنك بكشفك عن غضبك تكون على الأقل قد اتّخذت (موقفاً) وعبّرت عن ذاتك، وعليك أن تتحمل التبعات لو كنت (رجلاً).

عندما وصل إلى جملة: (لو كنت رجلاً)، قلت له: أرجوك خفف السرعة خففها، (واسفط) على جنب - أي قِف بسيارتك - وعندما توقف فتحت الباب بهدوء ونزلت وقلت له من خلال شباك السيارة: اذهب (إلى حيث ألقت)، وسألني مثلما سألته: مَن هي؟!، فقلت له: هي (أم عمرو).

تركته ومضيت معاكساً أسير على رصيف الشارع، حاملاً همّي وغضبي وحدي، متذكراً أن القلب الرقيق مربوط بخيط غير مشدود، مثلما هو القلب العنيف.

[email protected]