نذر الفتنة الأهلية الشاملة

TT

على الرغم من نذر اندلاع حرب جديدة في منطقة الخليج العربي على خلفية الملف النووي الإيراني، وعلى الرغم من مؤشرات انفجار الوضع الفلسطيني بعد وصول حركة حماس للحكم، إلا أن الرهان الأكثر حدة والذي يستوقف المراقب اليقظ للوضع العربي هذه الأيام هو دون شك إرهاصات قيام فتنة أهلية واسعة داخل الفضاء الإسلامي الشامل.

ولا تعني عبارة فتنة أهلية هنا الصراع الداخلي المسلح أو الحرب الأهلية التي جربناها في لبنان، حتى لو كان هنا المستوى من الفتنة احتمالا قائما بالفعل. إن الأمر يتعلق بما هو أبعد مدى وأشمل دلالة، أي بفتنة متعددة الخلفيات والمناحي والأطراف، تتمايز وتيرتها بحسب السياقات والساحات، ويمكن أن نميز داخل هذه الدينامية بين مستويات أربعة بارزة، نستجليها ببعض الاقتضاب.

أما المستوى الأول الأظهر: فهو الصراع الطائفي الذي بلغ مداه في العراق في الأشهر الأخيرة في إطار حرب الأضرحة والمساجد التي استهدفت في الأسابيع الماضية عتبات سامراء والعديد من المساجد السنية.

ومع أن العقلاء من الجانبين، وفي مقدمتهم السيد السيستاني وجمعية علماء السنة، حاولوا تهدئة الوضع واحتواء الفتنة، إلا أن الصراع الطائفي أصبح حقيقة جلية في العراق مرشحة للتفاقم في أي لحظة. ويشكل الاستقطاب الطائفي محور العملية السياسية في بلاد الرافدين في ظل انبثاق أطروحات انفصالية في شكل حلول فيدرالية تقنن التقسيم الفعلي بحسب خطوط التمايز الطائفية.

ومهما قيل عن مسؤولية التيارات التكفيرية المتطرفة في إذكاء النعرات الطائفية إلا أن الحقيقة المؤسفة هي أن الظاهرة تتجاوز هذا المستوى البادي للعيان، وتتعلق بإشكالات ومصاعب تعايش فعلية بين سنة العراق (من العرب) وشيعته، لا يمكن بطبيعة الأمر أن تعزى لأسباب عقدية أو مذهبية (على عكس الصورة السائدة) بل تفسر بعوامل معقدة ومركبة تتعلق من جهة بتركة النظام الاستثنائي السابق، وتتعلق من جهة ثانية بواقع الاحتلال والتركيبة التي افضى إليها واستراتيجيات واتجاهات القوى السياسية التي تستغل وتوظف العامل الطائفي في الشأن السياسي الانتخابي. وللحالة العراقية ذيولها وامتداداتها في العديد من الساحات العربية، مما لا يحتاج لبيان.

وقد أصبحت الظاهرة جلية في الإعلام الفضائي والإلكتروني، حيث يحتدم النقاش العقدي (خارج سياقه التاريخي) بين المتطرفين من الجانبين بلغة التكفير والتبديع والتخوين، مما أصبح منذرا بالخطر على نسيج الأمة الثقافي والديني، أما المستوى الثاني: فيتعلق بالصراع داخل الحقل الفكري بين الاتجاه التحديثي والاتجاه التأصيلي الذي غدا يأخذ شكل استقطاب حاد وعنيف بين التيار المدعو بالعلماني والتيار المناوئ المدعو بالأصولي. ولا يتعلق الأمر بصدام فكري أو مناظرة عقدية، وإنما بصراع مواقع لغته الايديولوجيا وأداته الخطاب، لا خصوبة فيه ولا ثراء، على عكس المواجهات الفكرية المطلوبة التي هي وقود التجدد الحضاري وأساس الحراك الثقافي.

وكما استندت بعض الحكومات في عقود سابقة للتيار الأصولي لمحاربة اليسار الصاعد في الساحة العربية، نلمس اليوم ظاهرة مشابهة تكمن في توظيف شعار التحديث في مواجهة الحركات الموسومة بالتطرف بدون دفع للاستحقاقات الموضوعية المطلوبة وفي مقدمتها إرساء مناخ فكري حر، هو الشرط الأوحد والضروري لتجديد الفكر وتحديث العقل.

والظاهرة الجديدة التي يتعين التنبه إليها هي انتقال هذا الاستقطاب إلى الحقل الاسلامي نفسه الذي أصبح يتضمن على الأقل قوى ثلاثاً متصادمة هي حركات الإسلام السياسي التقليدية (التي يطلق عليها صديقنا رضوان السيد اسم «الحركات الاحيائية) والمجموعات المدعوة بالسلفية الجهادية ،(التي لا تتردد في محاربة تلك الحركات وتكفيرها بحجة خنوعها ومهادنتها للانظمة)، والدعاة الجدد المستنكفون عن العمل السياسي، الذين أصبحوا اليوم كثيفي الحضور في الواجهات الاعلامية.

إن هذا الاستقطاب لن يحل بطبيعة الأمر بفرض مرجعية دينية ملزمة كما يطالب البعض، وإنما بإرساء الشروط الموضوعية لحوار فكري حر ورصين لا يستثني الا التيارات المتطرفة التي تلجأ للعنف والإرهاب، حتى ولو كانت هذه المهمة تبدو اليوم خيارا صعبا لا سبيل لتحقيقه.

أما المستوى الثالث: فيتعلق بالصراع الاثني والقومي الذي تلمس بعض نذره في ساحات عربية عديدة. صحيح أن مشكل الجنوب السوداني قد وجد طريقة للحل ـ ولو بصفة هشة ـ ولكن مشكل اقليم دارفور قد انفجر بحدة فظيعة معرضا البلاد لمحنة أهلية أليمة.

كما أن التغيير الذي حدث في موريتانيا يوم 3 أغسطس قد مكن من احتواء الاحتقان المتولد عن تركة نظام ولد الطايع المتهم بارتكاب مجازر في حق الأقليات الإفريقية الموريتانية، بيد أن هذا الملف لا يزال عالقا لم يحسم، ولعله سينتظر عودة الحياة الدستورية الطبيعية للبلاد بعد استكمال المسار الانتقالي الحالي في مطلع 2007 .

وفي العراق حالات مماثلة تتصل بملف القوميات الآشورية والتركمانية، وبوضع القومية الكردية التي لم تحسم خيارها النهائي (ما بين التمسك بالعراق الموحد أو الانفصال الفعلي في معادلة فيدارلية شكلية).

وفي الجزائر يطرح المشكل القبائلي ببعض الحدة أحيانا، في سياق حديث متنام عن «المشكل الأمازيغي» في منطقة المغرب العربي مما لا يتسع المقام لتفصيله في هذا الحيز. أما المستوى الرابع: فيتعلق بالإطار الإقليمي للفتنة الأهلية في فضائنا الإسلامي، حيث يشكل الملف النووي الإيراني بخلفياته ذات الصلة بالعلاقات الإيرانية ـ العربية المعقدة بؤرة رئيسة من بؤر هذا الصدام ـ خصوصا بعد وصول مرشح التيار المحافظ المتشدد للسلطة في طهران (الرئيس احمدي نجاد).

ولئن كانت المعادلة السياسية الجديدة في أنقرة (بعد تسلم حزب العدالة والتنمية للسلطة) قد خففت من هذه الإشكالات العالقة بين تركيا والعالم العربي) إلا أن العديد من الملفات العصية لا تزال على الطاولة، ومنها على الأخص موضوعات المياه وأكراد العراق وعلاقات تركيا بإسرائيل...

ومن الواضح أن المنظومة الإسلامية لم تتمكن في السنوات الأخيرة من بلورة أي رؤية استراتيجية منسجمة، ولم تنجح في بناء أسس شراكة فاعلة بين مكوناتها الأربعة الأساسية: العالم العربي وتركيا وشرق آسيا وإفريقيا الغربية على الرغم من الأدبيات السياسية الرائجة. إن ما نريد أن نخلص إليه من هذا التشخيص المقتضب لحال الأمة الذي رصدناه في مستويات ما دعوناه بالفتنة الأهلية العامة، وهو التنبيه إلى ضرورة العمل على احتواء نذر هذه الفتنة، التي وصلت إلى حد الخطر المدمر نتيجة لارتفاع صوت التطرف والإرهاب الذي أصبح الوقود الحقيقي للفتنة.