شيراكيات

TT

يتمتع جاك شيراك بشعبية جارفة واستثنائية في الشارع العربي. فلقد تمكن في أكثر من مناسبة من التصريح بمواقف مست وخاطبت عواطف عدد كبير من العرب، وبالتالي كانت نتيجتها حصوله على مكانة «خاصة» في قلوب الكثيرين منهم. ولم يعد غريبا مشاهدة جموع من المواطنين تتجمع حوله في زياراته العربية أو أن يطلق اسمه على شارع رئيسي، ولم يتبق إلا أن تهتف باسمه الجماهير «بالروح بالدم نفديك يا شيراك» أو أن يصدح شعبان عبد الرحيم بأغنية تعلن عن حبه له. واختتم الرئيس الفرنسي منذ أيام زيارة مهمة ولافتة للسعودية حظي فيها بترحيب كبير، وألقى خطابا تاريخيا بمجلس الشورى السعودي، ولكن مع شديد الأسف انحصرت التغطية الاعلامية التي تناولت هذه الزيارة في التركيز على الجوانب الاقتصادية وأخبار عن صفقات عسكرية. ولكن دولة بحجم فرنسا من الممكن النظر وبعمق لها في مجالات مهمة لجعل العلاقة معها استراتيجية.

رفض صدام الحضارات مفهوم تم ترديده من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، وبعده قال ذات الشيء الرئيس الفرنسي جاك شيراك، ولكن من الضروري ترجمة ذلك على ارض الواقع بين البلدين. ولعل أحد أهم عناصر قضية تواصل الحضارات هو الجانب الثقافي والتعليمي. لفرنسا العديد من المعاهد والجامعات التي من الممكن الاستفادة منها لتقديم خبراتها للسعوديين والسعوديات. فجامعات كالسربون والبوليتكنيك وغيرهما تحتل مكانة علمية دولية لافتة. ومن الممكن بالتالي الاستفادة من انجازاتها، وإذا كان هناك حماس واضح وترحيب وتسهيل لإقامة مصفاة فرنسية أو سكة حديد فرنسية وغيرها من المشاريع التنموية، لماذا لا يكون ذات الاقبال على اقامة المعاهد والجامعات الفرنسية وغيرهما؟.

وليس هذا الجانب الوحيد الذي من الممكن تفعيل محور تواصل الثقافات والحضارات فيه، فهناك خطاب التسامح الاسلامي المنشود لتحقيق هذا الامر من جهة العالم الاسلامي. وفرنسا لديها مسلمون يملكون هذا الفكر بجوانبه الروحية والعلمية والأدبية بامتياز. فكيف يمكن نسيان تجارب وفكر العالم الفرنسي المسلم موريس بوكاي أو المفكر والفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه غارودي والفيلسوف وعضو مجلس النواب الفرنسي المسلم رينيه جينو، فهؤلاء وغيرهم يقدمون انموذجا حضاريا للمسلم وكيفية تعايشه مع الأمم بفكر عملي لكيفية العيش المشترك المبني على القيم وعدم اقصاء الآخر. حصر التعاون ما بين السعودية وفرنسا في الجوانب السياسية والاقتصادية فيه انتقاص لقيمة البلدين، وما يمكن عمله وإنجازه بينهما. فالعمق الفكري والحضاري لفرنسا من جهة، ومركزية الموقع السعودي بالنسبة للعالم الاسلامي، يجعلان امكانية قياس النجاح في تواصل وتبادل الثقافات والحضارات واردا جدا، ولكن الأمر يبقى متعلقا بضرورة تهيئة المناخ الملائم والابتعاد عن الذهنية المتخوفة والرافضة لذلك.

[email protected]