أخطاء واشنطن: من الهند وباكستان.. إلى العراق وفلسطين

TT

الحديث متواصل حول العراق وفلسطين، لأن ما يجري فيهما من مآس يؤثر على كل فرد وشعب ودولة في المنطقة، كما أنه يلقي ضوءا كاشفا على حقيقة نوايا من يدعون أنهم وحدهم يملكون ناصية الحق والعدل والديمقراطية، ويحملون لواء تلك المعاني النبيلة، التي تتوق إليها الإنسانية ويعبرون عن جوهرها ومضمونها، بينما هم في الواقع يتصرفون تصرفات لا يمكن إلا أن تكون الصورة المعكوسة لما يتشدقون به ويتفاخرون.

وفي هذا الصدد، فإني أرى من المناسب أن أبدأ من نقاط بعيدة عن كل من العراق وفلسطين، ثم ننتقل إلى القطرين الشقيقين والشعب العربي فيهما، الذي يعاني ويدفع ثمن النفاق والكذب.

لقد انتهت زيارة الرئيس بوش إلى الهند وباكستان، ورأينا، كما رأى كل مراقب موضوعي، كيف أنه تعامل بمعيارين مختلفين مع موضوع التعاون في مجال الاستخدام السلمي للذرة، رغم حيازة الدولتين القنبلة النووية، وعدم انضمامهما لمعاهدة منع الانتشار، ومع مشاعر الود والصداقة التي أحملهما للدولتين اللتين يجمعنا بهما تاريخ ووشائج وطيدة من الإخاء والتضامن في ظروف صعبة، فإني لا أملك إلا الدهشة من غرابة، بل فساد المنطق في التعامل معهما، خاصة أن الرئيس بوش شخصيا أشاد بتعاون باكستان الوثيق فيما يسميه الحرب ضد الإرهاب، والتي تحملت فيها عبئا ثقيلا وأحيانا خطيرا، كما أنها كانت الحليف الأول، والممر الأساسي، للحرب العلنية والخفية ضد الوجود السوفيتي في أفغانستان، وهو ما أدى إلى تسليح وتدريب وتمويل عناصر المقاومة التي انتهى بها الأمر ـ نتيجة أخطاء ارتكبت من جانب أميركا ـ إلى أن تصبح نواة للفكر المتطرف العنيف الذي يطلقون عليه اسم «القاعدة»، والذي تحملت باكستان في أحيان كثيرة عبأه. ومع ذلك فإن واشنطن ترفض معاونتها في مجال الاستخدامات السلمية للذرة، بينما توقع مع الهند اتفاقية في ذلك المجال، وقد استمعت إلى الرئيس بوش شخصيا يبرر في عاصمة باكستان وأمام رئيسها، موقف بلاده، فجاء كلامه غامضا غير مقنع، بل مهين، ورأيت في ذلك الكلام نموذجا آخر للمعاملة الأميركية المتذبذبة للدول التي تحوز أو تسعى إلى حيازة، أو يدعي البعض رغبتها في الحصول على أسلحة دمار شامل.

وأعود إلى ما جرى مؤخرا في أميركا مستندا في ذلك إلى مقال رأي في جريدة «النيويورك تايمز» التي لا يمكن اتهامها بالانحياز ضد بلادها أو الاستسلام لمشاعر الغضب التي نشعر بها تجاه أميركا في بلادنا، لاعتبارات قد تكون مختلفة، وعنوان المقال «الكونجرس الكابوكي» والكابوكي هو ذلك الفن المسرحي الياباني، الذي وصفته الجريدة بأنه «الادعاء بأن الوهم أو خداع النظر هو الحقيقة». وتشير الجريدة إلى أنه بعد أن ثبت أن من تعتقلهم أميركا خارج أراضيها لا يخرجون كما كانت تدعي الحكومة من نطاق تطبيق القوانين الأميركية التي تضمن حقوق الأسرى والمساجين وتمنع التعذيب، فإن الكونجرس مدعو إلى إصدار قانون بأثر رجعي يعطي «صك غفران» لتصرفات الحكومة المخالفة للقانون، ونفس الأمر بالنسبة لإجراءات التجسس على المواطنين ومكالماتهم التليفونية واتصالاتهم بطريقة غير مشروعة، التي يراد الآن استصدار قوانين تضفي عليها المشروعية بأثر رجعي. فإذا أضفنا إلى ذلك ما أذاعته منظمات حقوق الإنسان حول وقائع التعذيب المستمرة وواسعة النطاق في سجون ومعتقلات أميركية، فإن من حق العالم أن يحكم على أميركا على أساس المبادئ التي تنادي بها وتدعو العالم إلى اتباعها، وأن يدين كل هذه الأمثلة لازدواج المعايير مما يسيء إلى تلك المبادئ ذاتها وإلى مصداقية من يدعون أنهم مكلفون بمهمة شبة إلهية لنشرها بالقوة الناعمة أو الخشنة على العالم. ولا نسوق هذه الأمثلة تبريرا لممارسات آخرين غير أميركا، ولكن لندعوها إلى مزيد من التواضع وإلى ضرب المثل على تطبيق ما تدعو إليه، فيكون العالم أكثر استعدادا للاستماع إليها بدلا من الشكوك الحالية التي تحيط في كل مكان بدعوتها فتسيء إلى القضية ذاتها.

ولعلي بعد تلك الاعتبارات العامة، اقترب بـ«الزوم» من الأوضاع في العراق، حيث ما زالت الأمور تتدهور نتيجة لتوالي سياسات أميركية خاطئة منذ الغزو، أدت إلى احتقانات وتوترات يعاني منها الشعب العراقي وتترنح آماله في أن يكون ما يتلو سقوط عهد صدام البغيض، هو تحول إلى الأفضل، بينما ما يراه هو انقسامات وأخطار أمنية تهدد المواطن في حياته ومستوى معيشته والخدمات التي يحصل عليها، ولعل قراءة مذكرات بريمر ـ دكتاتور العراق الأميركي السابق ـ وهي صفحات مليئة بالغرور والمغالطة الممزوجة بالجهل، تشير إلى أن النتيجة لم يكن أن تكون إلا ما نراه، بعد أن أطلق الحكم الأميركي دبابير الأطماع والأهواء.

وأنه مما يدعو إلى الحزن العميق، أن نرى الشيعة والسنة يتنازعون ويتجاوزون في ذلك خطوطا ما كان يصح عبورها، بعد أن ظلت الفتنة نائمة أو هادئة لقرون، كما نرى انقسامات داخل كل فريق تدور حول ولاءات تتجه إلى الخارج أو إلى الداخل، بينما المشكلة الكردية تكاد تقترب من مناطق الخطر في المنطقة كلها، وفي هذه الأجواء فإن الانتخابات التي جرت أصبحت جزءا من المشكلة، كما ان الدستور الذي تم إقراره على وعد غامض بتعديله لم يصبح الأداة المأمولة لإعادة بناء الدولة على أسس سليمة وصحية.

ومرة أخرى أرى أن الدول العربية، يجب أن تستأنف جهودها للمصالحة بين جميع الأطراف لحمايتها من رياح تهب عبر الحدود والبحار والمحيطات، متجنبة في ذلك ما تدعى إليه أحيانا من فخاخ نعرف أن بداياتها مثل نهاياتها مأساوية.

وليس هناك من يشك في أن الوضع في العراق، متصل بطريقة أو بأخرى بالمسألة الإيرانية.

ولعل ما يبدو هذه الأيام من مرونة في التعامل مع تلك المسألة ينبع من الاقتناع الواقعي بأن إيران تملك جزءا من إمكانيات الحل، أو زيادة التعقيد في العراق، رغم التنافس التاريخي بين النجف وقم. وأن توقيع عقوبات عليها يدفعها إلى أن تجعل الحياة أمام قوات احتلال العراق اصعب، وهذا أمر لا أعتقد أن أحدا ـ مهما بلغ صلفه وسوء تقديره ـ يمكن أن يتغاضى عنه، ويبقى أنه على إيران أن تتصرف بحكمة حتى لا تستيقظ شياطين يبدو أنها هدأت نوعا ما.

وإذا كانت الدعوة إلى الحكمة في العراق وإيران، يمكن لها أن تلقى صدى إذا تم بذل الجهود الصادقة في الاتجاه الصحيح، مع توقف محاولات الإملاء وتوسيع الخلافات، وكذلك بإضاءة ضوء انسحاب القوات الأجنبية الغازية في نهاية النفق، فإن إسرائيل ـ بمساندة من أميركا ـ مستمرة في مخططاتها بالتوسع والضم والقتل وإحراق الكنائس والتحريض ضد الشعب الفلسطيني، في محاولة لمنع التطور الطبيعي لحركة حماس بعد انتقالها من حركة تحرير إلى حكومة مسؤولة، وعلى كل القوى الفلسطينية وأقصد بالذات «فتح» و«حماس» أن تتعاون إلى أقصى حد ممكن وبالشكل المناسب، الذي يصب في مصلحة الشعب الفلسطيني في مجموعه، لإفشال مخططات إسرائيل للعودة إلى نغمة «عدم وجود شريك»، ونحن نعلم أن همها وهم أصدقائها في واشنطن، هو وأد أي شريك يظهر كما رأينا في تعاملهم مع أبو عمار، ثم مع أبو مازن والآن مع «حماس»، وأتصور أن حركة حماس أدركت قواعد اللعبة كما توحي تصريحات زعمائها، كما أن الدور الذي بدأت روسيا تضطلع به في حنكة لحماية «حماس» من محاولات عزلها وإجبارها على التمترس في مواقف يستغلها أعداء السلام والحق الفلسطيني، هو دور جدير بالتقدير والمساندة. ويجب من ناحية أخرى على العالم العربي أن يساعد ـ دون ضغط ـ «حماس» على أن تهزم المخططات الشريرة لإسرائيل وأعوانها، عن طريق التقدم بمقترحات محددة لإحياء جهود جادة وحقيقية للسلام لا تعيد فتح ملفات فتحت فعلا، وتسعى إسرائيل لإعادة فتحها عن طريق الاستفزاز والخداع، ولا شك أن الحديث عن الاعتراف هو حديث مخادع، لأن السلطة الفلسطينية تبادلت الاعتراف مع إسرائيل، أما المطلوب الآن، فهو أن تؤكد إسرائيل انها حقيقة تعترف بالشعب الفلسطيني، وبحقه في إقامة دولته وفقا لخريطة الطريق، وأن تنزع الألغام التي تزرعها كل يوم ساعية، حتى تدخل كل آمال السلام في غيبوبة، مثل تلك التي يعاني منها شارون.