حكومة فلسطينية برؤية جديدة

TT

تتعدد الاجتهادات والتساؤلات حول شكل المرحلة السياسية التي أفرزتها الانتخابات الفلسطينية البرلمانية والتي أوصلت «حماس» وعبر فوزها غير المسبوق وتحكمها باغلبية برلمانية مريحة الى قلب السلطة وبؤرة صنع القرار، وتحولها الى احد مكوناتها الرئيسة، وهذا أول تحد لها في كيفية التوافق بين منطق الثورة والسلطة .

ولا خلاف أنه ومنذ أن أعلنت «حماس» مشاركتها في الانتخابات الفلسطينية البلدية أولا ثم البرلمانية ثانيا ، فإن وضع النظام السياسي الفلسطيني في بدايات المرحلة الثالثة من تطوره. فكانت المرحلة الأولى عندما سيطرت الفصائل الفلسطينية الفدائية على منظمة التحرير الفلسطينية عام 1968، في أعقاب تنحي مؤسسها احمد الشقيري في ديسمبر 1967، وكانت النقلة النوعية الثانية بتوقيع اتفاقيات أوسلو 1994 ونشوء ما عرف لاحقا بالسلطة الوطنية الفلسطينية، أو سلطة الحكم الذاتي والذي انطوى على نشوء كيان سياسي بمؤسسات سلطة الدولة دون أن تكون له صلاحية الدولة. وقد انطوى هذا التطور ايضا على هجران لمنظمة التحرير ومؤسساتها وأدوارها .

أما النقلة النوعية الثالثه فتبدأ ملامحها العامة ليس فقط بمشاركة «حماس» في الانتخابات، ولكن بفوزها في الانتخابات أهلتها للتحكم في السلطة التشريعية ورئاسة الوزراء، وهي سابقة غير معهودة في النظام السياسي الفلسطيني المعاصر، لما ستترتب على هذه المشاركة السياسية المباشرة من تغييرات في كينونة وتكوين السلطة الفلسطينية وتفاعلاتها الداخلية والخارجية. فداخليا أدى الى تراجع دور تنظيم «فتح» التقليدي في التحكم المطلق في منابع صنع القرار الفلسطيني، وأدى من ناحية أخرى الى تقليص دور قوى اليسار الفلسطيني، وكأننا أصبحنا أمام نظام سياسي يميل الى ثنائية التكوين أو استقطاب السلطة. ولا شك أن هذا الفوز سيؤدي الى الاسراع في وتيرة الاصلاح الداخلي الذي انتظره المواطن الفلسطيني العادي طويلا وكان سببا مباشرا في هذا التحول، والذي حول الحياة السياسية الفلسطينية الى حالة من التكلس السياسي. والاهم من ذلك التحولات المتوقعة في بنية وخطاب «حماس»، فهي لن تنجو من مفاعيل وصولها الى السلطة والانغماس في أدغالها. فالسلطة لها مفاعيلها الداخلية والخارجية التي ستترك آثارها المباشرة على إدارة «حماس» للسلطة والحكومة .

إذن نحن أمام مشهد سياسي فلسطيني جديد سيقرر واقعا سياسيا جديدا مستندا إلى شرعية قانونية عقلانية لا يمكن لأي تنظيم أن يشكك فيها أو يخرج عنها لأنها هي ركيزته وقوته الى الوصول الى السلطة. وذلك مع تراجع الشرعية التقليدية كالاحتماء بالشرعية الثورية أو الكارزمية أو العائلية، فلا خلاف أن هذه الانتخابات أرست المبادئ والركائز الجوهرية لأية عملية تحول ديموقراطي ناجحة، لكن يبقى الأمر مرهونا بدرجة الممارسة السياسية على واقع السلطة نفسها، ولعل فى مقدمة هذه الممارسات الحاجة أولا الى حكومة فلسطينية برؤية جديده تبتعد عن معايير توزيع المناصب على اسس ولائية والترضيات الشخصانية، حكومة تستجيب أولا للواقع السياسي وتحدياته الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والتي تفرضها عملية التحول وارتفاع سلم التوقعات من هذه الحكومة تحديدا، وتخاطب ثانيا قدرات وكفاءات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، ولا تتجاهل كافة شرائحه كالشباب والعمال. ولذلك أتمنى أن تخرج الحكومة بثوب جديد وبنية واقعية وخطاب سياسي متفهم لواقعها وبيئتها، داخليا ودوليا، بعيدا عن لغة الشعارات والعموميات التي تحكم عمل التنظيمات. نحن الآن أمام خطاب سياسي لحكومة يسمعه العالم كله وليس عالم «التنظيم»!

والأمر الآخر الذي أتمناه أن أرى وزارات قد ادمجت أو الغيت ووزارات جديدة تفرضها حاجات التنمية الشاملة وتطوير الاداء الفلسطيني. وزارات تتصدى لمشاكل الأداء الاداري الحكومي المتضخم، وتقدم رؤية تنموية شامله واخرى تستجيب لحاجات الشباب وتنمية المجتمع ومتطلبات الثقافة في عصر العولمة الثقافية الزاحفة، وثالثة تولي اهتماما خاصا بالقضايا الرئيسية كالقدس واللاجئين والفلسطينيين في الشتات، المطلوب وزارة فلسطينية تنهي اسطورة وهم الفرد الواحد الذي لا يتغير، وزارة توحد الفلسطينيين في داخلهم وخارجهم وفي قضاياهم.

هي بكل المعايير فترة انتقالية تحكمها قيود ومحددات وتحديات كثيرة، لن تقوى «حماس» بمفردها أن تتجاوزها بل تحتاج معها الى مشاركة جميع قوى ومؤسسات المجتمع. وبقدر استجابة الحكومة في تشكيلتها ورؤيتها بقدر تجاوز هذه المرحلة المفصلية والتي ستنقل مسيرة النظام الفلسطيني الى المرحلة الرابعة في تطوره وسيرته الذاتية والتي من شأنها أن تؤسس الى مرحلة راسخة وثابتة من التطور السياسي وعندها يمكن أن نقدم نموذجا ديموقراطيا يملك عناصر نموه الذاتي التلقائي يوصلنا الى إجبار العالم على احترام ارادة الشعب الفلسطيني وخياراته وحقوقه الوطنية المشروعة. وبالمقابل عمل الحكومة لن يكتمل الا من خلال تفعيل دور البرلمان في الرقابة البرلمانية والمحاسبة والمساءلة السياسية، وتفعيل دور البرلمان كقناة مؤسساتية لادارة الحوار والخلافات، وهنا يقاس دور واداء كافة القوى السياسية داخل البرلمان، فلسنا داخل حلبة ملاكمة نسعى للفوز بالضربة القاضية أو تسجيل أكبر عدد من النقاط ، نحن داخل قبة البرلمان المواطن الذي منح صوته ينتظر الكثير، والعالم يراقب اداءنا.

إن نجاح هذه العملية مرهون بتكرارها على نفس الأسس والمعايير التي تمت فيها، وهذا يحتاج الى شراكة سياسية حقيقية إن لم تكن داخل الحكومة فعلى الاقل داخل قبة البرلمان .

* كاتب واكاديمي

فلسطيني من غزة

[email protected]