هجرة القبيلة إلى «كازينو» الاقتصاد

TT

كأيّ عربي، تحزُنني مشاهد القتل والتدمير في العراق الحبيب. لكن أفزعتني صورة لبورصة بغداد. انعدام الأمن لم يمنع جيلاً من المراهنين الصغار، شبابا وفتيات، من المغامرة بالحياة، للوصول إلى البورصة والمضاربة بأسعار الأسهم والعملات!

المضاربة في البورصة هي «الموضة» الشائعة اليوم في الحياة العربية المعاصرة. هناك مثلا 600 ألف مضارب في السوق المالية الأردنية. وستة ملايين مضارب في السوق السعودية التي تعتبر أكبر بورصة عربية.

المال ليس بجديد في حياة الإنسان. التمويل معروف منذ فجر التاريخ. كانت القروض متداولة في العراق القديم. المصرف دخل حياة مصر الفرعونية قبل 2200 سنة. بعض الإفتاء الديني يلبس لكل حالة لبوسا. عندما أصبحت الاشتراكية دين القبيلة اليسارية العربية، قالت «المفاتي» إن الاشتراكية موجودة في الإسلام. عندما مالت القبيلة إلى الرأسمالية، سارعت «المفاتي» إلى التبشير بأن الإسلام دين رأسمالي. من هنا لا أتوقع أن يفتي الشيخ القرضاوي أو عمرو خالد ضد البورصة، لأنهما يعيشان في بلدين رأسماليين.

لست مفتيا وقاضيا في الحلال والحرام، إنما أقدم تعريفا غاية في التبسيط للبورصة، من زاوية مالية واقتصادية بحتة: البورصة سوق للأوراق المالية والعملات هي بمثابة مؤشر لمعرفة اتجاه الاقتصاد والوضع المالي لمؤسساته من حكومية وخاصة. هذا يعني انها تساهم في تحريك الاقتصاد والتجارة والتنمية، إذ تضمن لشركات إنتاج السلع وتشغيل العمال زيادة في رؤوس أموالها، من خلال طرح أسهمها للتداول في البورصة.

لكن متى ولماذا تصبح البورصات خطراً على الاقتصاد والمال والناس؟

تداول الأسهم والعملات أمر اقتصادي مشروع في الحدود التي ذكرت للتعريف بمهمة البورصة. لكنْ هناك فرق كبير بين التداول للاستثمار والتمويل، والتداول للرهان والمضاربة لمجرد كسب المال بسرعة وسهولة. هذه المضاربة تجعل البورصة أشبه بـ «كازينو» القمار. الرئيس الأميركي الأسبق تيودور روزفلت قال عن البورصة منذ مائة سنة: «لا فرق أخلاقياً بين المقامرة بالورق والخيل، والمقامرة في سوق الأسهم».

المضاربة مغامرة متأصلة في النفس الإنسانية. انها الرغبة الكأمنة في غريزة الامتلاك. العرب قبيلة مالية مثل كل القبائل المالية في العالم. أشاع أشعب أن فلانا يولم. عندما تهافت الناس على الوليمة المزعومة لحق بهم أشعب مصدقا ما أشاع. وهكذا، أغرت وليمة البورصة أناسا عاديين، من صغار المدخرين والمقترضين، للرهان بـ «تحويشة العمر» في البورصة. حققوا أرباحا سهلة. عندما تجاوزت الأسهم قيمتها الحقيقية صعودا إلى سعر خيالي، ساد الخوف، فتراجعت الأسعار بفعل عوامل أخرى أيضا.

إلى الآن، لم يحدث انهيار في البورصات العربية. لم تتبخر الأموال كلها. خسرت القبيلة، لكنها ما زالت تحتفظ ببعض الأرباح. الذين خسروا ما فوقهم وتحتهم، لا شك، أصيبوا بصدمات وأزمات. مراهنون هاجروا، عن جدارة، من البورصات إلى المستشفيات. امرأة مصرية تشكو من أن زوجها المضارب لم يعد، بعد الخسارة، قادرا على ممارسة «واجباته الزوجية».

قيمة المال في كيفية إنفاقه واستثماره، وليست في اقتنائه. فرق كبير بين الاستثمار والمضاربة. كبار المستثمرين المحترفين يراهنون على آجال طويلة الأمد، تساعدهم على ذلك رؤوس أموال وفيرة، ودراسات عميقة لتقلبات السوق، تقدمها لهم مصارف ودور سمسرة خبيرة.

السذّج الذين راهنوا على غير معرفة بالاقتصاد والمال والبورصة، لا يعرفون أن المال السائب أو السائل معرّض غريزيا للاستلاب والاغتصاب. الطريف هنا أن المضاربة العشوائية تتم لآجال قصيرة جدا، على أسهم لشركات صغيرة أو ضعيفة تتعرض أسعارها للتذبذب بأرقام متفاوتة. حققت القبيلة أرباحا لا بأس بها من هذه الأسهم. عندما تراجعت الأسعار كانت الخسارة أكبر بكثير من الخسارة في أسهم الشركات القوية، فهي عادة لا تحقق ربحا أو خسارة كبيرة.

لماذا تُشَبَّهُ البورصة بـ «الكازينو»؟

لأن الإقبال على الرهان والمضاربة بعيد تماما عن الاسثتمار في الاقتصاد الحقيقي، اقتصاد الإنتاج للسلع والخدمات والصناعة، الاقتصاد الذي يؤمن الاستقرار الاجتماعي والعمالة للعمال. من هنا، فالمضاربون قبيلة معطلة للتنمية الحقيقية وللنمو الاقتصادي. التراجع أو الانهيار قد يسبب الجمود الاقتصادي، وفقدان القدرة على تمويل المشاريع، بسبب تبخر السيولة مع الخسارة.

الرأسمالية المتوحشة أنزلت بالأسواق المالية في القرن الماضي انهيارات وأزمات كارثية. انهيار سوق نيويورك (1929) جمد الاقتصاد الأميركي. لم يكن بالإمكان حل «الكريزة» المستعصية إلا بعد 11 سنة، بسوق ملايين العاطلين عن العمل إلى ساحات الحرب العالمية الثانية.

الإشكالية تكمن في أن المصارف المركزية حارسة العملات والأسهم، لم يعد بإمكانها السيطرة على الأسواق المالية، بعدما تمت عولمة الأسواق بزواج البورصة والأتمتة والثورة المعلوماتية الإلكترونية التي تنقل، في طرفة عين، الأسعار إلى المستثمرين في البورصات في مختلف أنحاء العالم، وهم أيضا ينتقلون بها، في طرفة عين، بين مختلف البورصات.

كان حجم الاستثمار في البورصات في الثمانينات 86 مليار دولار، بلغ 1.2 تريليون دولار (ألف مليار) في التسعينات.

ويبلغ اليوم ألفي مليار (2 تريليون). أرقام إلكترونية لأموال وهمية متنقلة بين البورصات والشركات والمصارف، بلا رقابة فاعلة. المصارف المركزية تملك أيضا ألفي مليار دولار، كاحتياطي من عملات مختلفة، لكن تدخلها لإنقاذ أسعار الأسهم والعملات التي يتم الرهان عليها، ليس كافيا لإنقاذها.

قدرت خسائر «سوق المناخ» (1982) السوق المحاذية للسوق الرسمية بـ 95 مليار دولار، عندما انهارت الأسعار، بحيث اضطرت الدولة الكويتية إلى التدخل بشراء جانب من الديون والقروض (الخسائر)، ثم الانتظار وقتا طويلا لاسترداد بعضها.

للدلالة على قوة القبيلة المضاربة بكازينو البورصة، أذكِّر بأن المستثمر اليهودي الأميركي جورج سوروس بنى امبراطورية مالية من لا شيء في البورصة. انه الامبراطور الذي سحق الجنيه الاسترليني في عام 1992، وأجبره على الخروج من سلة الأسعار التبادلية للعملات الأوروبية آنذاك. ثم كان المساهم الأول في انهيار عملات «النمور» الآسيوية في عام 1997.

كيف يمكن التخفيف من تراجع الأسعار أو انهيار البورصات؟

عبرة عام 1929 علمت المصارف المركزية الإسراع بضخ السيولة لتجنيب الاقتصاد الجمود، بالإضافة إلى خفض سعر الفائدة المصرفية على القروض. لكن لا بد أولا من فرض رقابة صارمة على الرهان والمضاربة. الحكومة السعودية لجأت أخيرا إلى تحديد نسبة تذبذب أسعار الأسهم بخمسة بالمائة يوميا فقط. المصرف المركزي يستطيع أيضا شراء جانب من العملات المنهارة التي طرحها المضاربون أرضا.

لعل توجيه رؤوس الأموال الحكومية والخاصة للاستثمار في الاقتصاد الحقيقي هو الحل الأفضل. ثم إنشاء صناديق احتياطية لتأمين الإنقاذ، إذا ما تعرضت الأسواق العربية لتراجع أو انهيار، لا سيما أن المال متوافر الآن، نتيجة لارتفاع أسعار النفط الذي بلغ دخل العرب منه في العام الماضي ما يقرب من 500 مليار دولار.

إذا كانت لي نصيحة لحماية مال لا أملك منه دولارا واحدا، فهي عدم الإسراف بمنح تراخيص عمل للمصارف الأجنبية. انها الحيتان وأسماك القرش التي أغرتها بالاقتراب السيولة المتوافرة لدى القبيلة المهاجرة إلى كازينو الاقتصاد.