.. بانتظار فقيه شجاع

TT

اثارت آراء فقهية أدلى بها الشيخ جمال البنا، شقيق مؤسس جماعة الاخوان المسلمين حسن البنا، الاسبوع الماضي ، جدلا ولغطا بسبب ما اعتبره البعض «جرأة» فقهية، وخروجا عن المألوف في الفتوى.

الشيخ جمال المعروف بخروجه عن النص، وقد حارب الازهر كتابه «مسؤولية الدولة الاسلامية في العصر الحديث» كما يقول، لأنه قال فيه إنه إذا وجدت المرأة المسلمة في المجتمع الأوروبي حرجا من كشف شعرها، فلتلبس «برنيطة» ولا تلبس ما يسمى بالحجاب الذي سيعزلها عن الناس، كما في حواره مع «العربية نت».

لكن الجميل في هذا الشيخ المنتمي الى اطاره الاسلامي، رغم اجتهاداته المثيرة لحنق المشايخ الاخرين، انه مصر على انتمائه، ولا يمل من الدفاع عن اخيه حسن البنا ضد من يحاول «تشويهه» كما يقول.

جمال البنا في تصريحاته الجديدة ـ القديمة، التي نشرت الخميس الماضي، يرى أن ما يسمى بـ«الاختلاط» اي الاشتراك في مجريات الحياة العامة بين النساء والرجال في المجتمع، ليس أمرا «مباحا» فقط، بل هو ضروري! وهو من الطبيعة والفطرة لأن الفصل بين الجنسين «عملية وحشية» كما يقول الشيخ البنا.

جمال البنا، ليس اول من قال ذلك من «الشيوخ» المختلفين، ولن يكون آخرهم، فلماذا تضيع وتخنق آراؤهم النابعة من عين فقهية صافية ؟! آراء لم تنبع من الادبيات الغربية، بل عبر الاستشهاد بنفس المصادر والنصوص، والآليات، التي يستشهد بها المخالفون، خصوصا في ما يتعلق بالمرأة، التي يرى كثيرون، وانا منهم، انها الميدان الرئيسي لمعركة الحداثة الاجتماعية في العالم الاسلامي، وان خوف الكثيرين من خطاب الحداثة نابع من خوف عميق و«رهيب» من «إعادة تعريف» المرأة، بوصفها كائنا اجتماعيا وسياسيا مكتمل الشروط والحقوق.

هناك فقهاء أهم من جمال البنا، بعضهم قديم وبعضهم معاصر، قمعت آراؤهم الفقهية، من أناس اقل منهم علما بكثير، بل من قبل العامة والغوغاء، رغم رسوخ قدم هذا الشيخ في الفقه وكونه «معلما» لهم، ولم يملك الفقيه المقموع في نهاية المطاف إلا ان يمضغ حسرته من شدة تسلط الجهلة على اهل العلم.

وهنا اتذكر قصة الفقيه السعودي الشهير الذي تراجع بسرعة عن رأيه في حدود حجاب المرأة، وأن كشفها للوجه ليس امرا محرما، لكن حينما بدأت غمامات التخوين تنعقد في سمائه... لم يستطع التحمل فـ«حاص». والمعتاد في مثل هذه الحالات ان يسارع الشيخ الى التراجع عبر القول إن الآخرين «اساءوا فهمه»، او انهم «بتروا سياق كلامه»، او ان هناك من «يتصيد» المتشابه من الحديث... والحق ان هناك من يتصيد ولكن يتصيد «الواضح»، من الاجتهادات! حراس الجمود والموجود، واقفون على باب الكهف لكل خارج ...!

الفقيه الشجاع لا يبالي بهذه الاكراهات عليه، الفقيه الذي وصل الى درجة عميقة من التبحر في الفقه، والخالي من الاغراض السياسية الفجة، أي الفقيه «المحترف» غير المسيس، او المعني بالعمل ضمن اطار جماعات الاسلام السياسي، هذا النوع من الفقهاء، لا يقدر على الاستمرار بالاستسلام للاخضاع «العامي» والارهاب من الجماهير، فيبوح باجتهاده الفقهي، رغم كل شيء، لأنه يعرف ان كلمة «شريعة» التي يرددها امثال الظواهري او سيد قطب او غيرهما من الفقراء في معرفة تاريخ الفقه وآلياته الداخلية وكيفية تكوّن الشريعة، يعرف هذا الفقيه تماما ان هؤلاء الرافعين لـ«الشعارت» يجهلون محتواها، فالشريعة ليست صخرة صماء بلا مسامات، ألقيت، هكذا، كاملة منتهية من شاهق الى الارض، ثم قيل خذوها كلها او دعوها ... لا ! فهذا تصور جاهل لمعنى كلمة شريعة، الشريعة هي مجموع الاجتهادات الفقهية التي تراكمت عبر التاريخ، هي حصاد التفاعل بين ثلاثة عناصر: النص، والواقع، والانسان. اما النص فمعروف، واما الانسان الذي يفعّل النص فهو الفقيه العارف بدلالاته وشروطه وسياقات وروده... الخ، واما العنصر الثالث فهو حركة الواقع الذي يملك تأثيرات كبرى على النص والفتوى... كل ذلك مرصود في علوم اسلامية نشأت في ظل الحضارة الاسلامية وهي اصول الفقه، ومقاصد الشرع .

لكن محترفي الاسلام السياسي، او اكثرهم، بعيدون عن التقاط هذا الروح، واستبطان هذه التأثيرات الواقعية على النصوص، وهم عاجزون، او متعاجزون! عن تلمس نقاط التفاعل بين المطلق والنسبي في الشريعة... من اجل ذلك فهم عالقون في المنتصف، وعالقة معهم حمامة مستقبلنا التي تبشرنا بالوصول الى ارض النجاة، حاملة معها غصن الامل...

قصة معاناة الفقهاء الحقيقيين غير الخاضعين لأهواء اهل السياسة من موالاة ومعارضة، قصة مثيرة وطويلة، تستحق الكثير من الكلام.

ولما افتى مفتي السعودية عبد العزيز ال الشيخ بعدم جواز العمليات الانتحارية , او الشيخ « العبيكان» بعدم جواز القتال في العراق, تعرضا لحملة شرسة.

لكن هناك فقيه نموذج لما اتحدث عنه، هو الشيخ الفقيه العظيم محمد ابو زهرة، صاحب المؤلفات المتبحرة في الفقه والقانون وتاريخ التشريع الاسلامي، وهو المعلم الشهير، يذكر الباحث زهير ظاظا حادثة معبرة للشيخ ابي زهرة حدثت له آخر عمره، وحكى عن الشيخ القرضاوي عند حديثه عن مؤتمر ندوة التشريع الإسلامي المنعقدة في مدينة البيضاء في ليبيا عام (1972)، قوله :«وفي هذه الندوة فجر الشيخ أبو زهرة قنبلة فقهية، هيجت عليه أعضاء المؤتمر، حينما فاجأهم برأيه الجديد. وقصة ذلك: أن الشيخ رحمه الله وقف في المؤتمر، وقال: إني كتمت رأيًا فقهيًّا في نفسي من عشرين سنة، وكنت قد بحت به للدكتور عبد العزيز عامر، واستشهد به قائلا: أليس كذلك يا دكتور عبد العزيز؟ قال: بلى. وآن لي أن أبوح بما كتمته، قبل أن ألقى الله تعالى، ويسألني: لماذا كتمت ما لديك من علم، ولم تبينه للناس؟. هذا الرأي يتعلق بقضية «الرجم» للمحصن في حد الزنى، فرأيى أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرها الرسول في أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد في سورة النور. قال الشيخ: ولي على ذلك أدلة ثلاثة: الأول: أن الله تعالى قال: «فإذا أُحصِنَّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب» (النساء: 25)، والرجم عقوبة لا تتنصف، فثبت أن العذاب في الآية هو المذكور في سورة النور:«وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين» (النور 2) والثاني: ما رواه البخاري في جامعه الصحيح عن عبد الله بن أوفى أنه سئل عن الرجم..هل كان بعد سورة النور أم قبلها؟ فقال: لا أدري. فمن المحتمل جدًّا أن تكون عقوبة الرجم قبل نزول الاية في سورة النور التي نسختها. الثالث: أن الحديث الذي اعتمدوا عليه، وقالوا إنه كان قرآنًا ثم نسخت تلاوته وبقي حكمه أمر لا يقره العقل، لماذا تنسخ التلاوة والحكم باق؟ وما قيل: إنه كان في صحيفته فجاءت الداجن وأكلتها لا يقبله منطق، وما أن انتهى الشيخ من كلامه حتى ثار عليه أغلب الحضور، وقام من قام منهم، ورد عليه بما هو مذكور في كتب الفقه حول هذه الأدلة. ولكن الشيخ ثبت على رأيه».

ويتابع القرضاوي حكايته :«وقد لقيته بعد انفضاض الجلسة، وقلت له: يا مولانا، عندي رأي قريب من رأيك، ولكنه أدنى إلى القبول منه. قال: وما هو؟ قلت: جاء في الحديث الصحيح: «البكر بالبكر: جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب: جلد مائة، ورجم بالحجارة». قال: وماذا تأخذ من هذا الحديث؟ قلت: تعلم فضيلتك أن الحنفية قالوا في الشطر الأول من الحديث: الحد هو الجلد، أما التغريب أو النفي، فهو سياسة وتعزير، موكول إلى رأي الإمام، ولكنه ليس لازمًا في كل حال...»، ثم يخبرنا القرضاوي ان الشيخ ابا زهرة لم تعجبه هذه «التخريجة». وقال له : يا يوسف، هل معقول أن محمد بن عبد الله الرحمة المهداة يرمي الناس بالحجارة حتى الموت ؟... ويخبرنا القرضاوي عن ألم الشيخ ابي زهرة، الفقيه «المحترف»، من حملة التهييج التي مورست ضد «اجتهاده»، قائلا: «يبدو أن هذه الحملة الهائجة المائجة التي واجهها الشيخ أبو زهرة جعلته يصمت عن إبداء رأيه؛ فلم يسجله مكتوبًا بعد ذلك، وربما لأن الشيخ الكبير لم يعمر بعد ذلك طويلا؛ فقد وافته المنية بعد أشهر، عليه رحمه الله ورضوانه».

ومثل هذه الحكايات كثيرة حصلت وتحصل من فقهاء وشيوخ يرون هيمنة فتاوى مرجوحة من وجهة نظرهم، والأنكى من ذلك فتاوى التجهم والقساوة، وسيطرة الجهلة او الانتهازيين على كل شيء، ولكنهم يحجمون عن مواجهة «وحش» الجمهور، ومن يحركهم من محترفي التهييج والمحاصرة، سواء من المشايخ او اهل السياسة او المال، وكم من فقيه عظيم قمعته العامة، مثل الفقيه المفسر المؤرخ ابن جرير الطبري الذي جمعت العامة الحطب امام بيته وحاولوا اغتياله بسبب حملات التهييج ضده... في بواكير العهد العباسي .

ولولا ان المجالس بالامانات لكتب الانسان الكثير عن الكلام الذي يسمعه في المجالس الخاصة من بعض الشيوخ، آراء تخالف التي نسمعها في العلن، حول كل شي... ولكن لمن نشتكي!؟

إنها اجواء مسمومة تجعل من يعرف يسكت، ومن لا يعرف يقود من يعرف... بانتظار فقيه شجاع ...!

[email protected]