.. لكي لا تلعب الصين في المنطقة الرمادية..!

TT

دعونا نردد أن آلة القمع يعطي نتائج إيجابية، ولكن والى أن يتم إدراك هذه الحقيقة من قبل الشركات الأميركية العاملة في الصين، ستبقى ذات تأثير ضئيل على التحولات الاجتماعية والسياسية في الصين، بل وحتى ما يخص عملياتها التجارية هناك.

وهذا أيضا يبدو صحيحا بإسقاطه، مع الفارق، على أعضاء الكونغرس الأميركي الذين راحوا يوبخون فجأة حكام الصين أتباع لينين، جراء لجوئهم للغش في التجارة وأسعار العملة. أما بالنسبة للبيت الأبيض المتضارب في مواقفه، والذي سيستضيف الرئيس الصيني في الشهر المقبل، مع مزيج من باقات الورد والانتقادات اللاذعة، فلن يلجأ بالطبع الى الإشارة إلى القوة التي كانت وراء التقدم الاقتصادي المدهش الذي تحقق في الصين خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة.

وتلك القوة تتمثل بالنظام غير العادل للأجور المنخفضة والمفروض من قبل الحزب الشيوعي «والقيادة العسكرية القوية. وإذا حذفت ذلك النظام وعوضته بواحد لديه الاتفاقات الجماعية بين العمال وأصحاب العمل مع ممثلين لاتحادات العمال يتم اختيارهم بحرية، فإن كل شيء سيتغير بشكل درامي ونحو الأحسن.

ما حدث في الصين منذ عام 1989 هو إعادة أسلوب كان قد تم اتباعه في أماكن وأوقات أخرى. لكن ببساطة فإن القدرة على التوقع بتحقيق أرباح مع تكاليف العمل الرخيصة، هو ما يعني المستثمرين الأجانب. وهنا نأتي لبيت القصيد لنقول إن القمع السياسي قد يحقق الاثنين معا.

فبعد أن أطلق رجال الشرطة النار على متظاهرين سود، معادين لنظام الفصل العنصري والذي عرف لاحقا بـ«مجزرة شاربفيل» عام 1960 انسحب المستثمرون الأجانب من جنوب أفريقيا، وأدى ذلك إلى انخفاض احتياطي البلد إلى النصف. لكن الاتجاه تبدل مع زيادة القمع وتمكن النظام من البقاء. وتم بناء ازدهار اقتصادي استمر لعقدين واستند إلى الاستثمار الأجنبي، لتجئ عمليات التبرير له بالنظرية التي تقول إن مشاركة الشركات الأجنبية ستجلب وحدها إصلاحا سياسيا.

والى ذلك فقد حدثت عملية مماثلة في الصين بعد مظاهرات ساحة تيانامين الشهيرة. ومعلوم أن الرئيس الأسبق بوش كان قد أرسل مستشاره للأمن القومي وقتها برنت سكوكروفت لتطمين الصينيين، (وبشكل غير مباشر المستثمرين الأميركيين)، مفيدا بأن واشنطن لن تسمح لقتل المتظاهرين السلميين والاجراءات المتشددة التي اتخذت ضد الحريات المدنية في الصين أن تؤثر على البزنس. أما إدارة كلينتون فذهبت خطوة أبعد، حينما جعلت الصين «شريكا استراتيجيا».

تذكروا أيضا سياق قرار عام 1989 قضى بستخدام القوة الوحشية من أجل اخلاء شوارع وساحات الصين من ملايين المتظاهرين، فيما كان الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف وفي الوقت نفسه يقرر عدم استخدام القوة في المانيا الشرقية أو في الداخل لإكساب النظام السوفييتي شيء السمعة، فكان أن سار عدم التنبؤ بالأحداث مستصحبا الافتقار النسبي الى الاستثمار الأجنبي، يدا بيد في الامبراطورية السوفييتية السابقة منذئذ.

وقد استشهدت بتجربة جنوب أفريقيا لأنها قضية أعرفها جيدا، ولأن لها تأثير مباشر على ما يتعين على الشركات والزعماء السياسيين الأميركيين فعله الآن لحماية سمعتهم كمواطنين متضامنين، ولحماية مصالحهم البعيدة المدى أيضا.

والى ذلك فقد حدث انعطاف في الكفاح ضد الأبارثيد في عام 1977عندما اقنع القس ليون سوليفان الشركات الأميركية بتبني طائفة من المبادئ من أجل توجيه نشاطها التجاري في جنوب أفريقيا. وركزت هذه القاعدة في العمل على الفرص المتساوية للسود الذين يعملون في هذه الشركات وللشركات المحلية التي لديها صلات مؤسساتية مهمة مع الشركات الأميركية. وقد غيرت مبادئ سوليفان النقاش من نظريات تبرير ذاتي حول البزنس الذي يطرح التغير الاجتماعي، الى نقاش حول الخطوات العملية لما يحدث يوميا في موقع العمل،

فكان أن شجعت هذه العلامة على الدعم الخارجي للجنوب افريقيين السود لجهة تجديد عملية سياسية كانت قد تعرضت الى القهر، مثلما وفرت عوامل ضغط كبيرة لصالح النشطاء المناهضين للأبارثيد في الخارج. وقد أدت توليفة من العقوبات والنشاط السياسي الداخلي الى ضغوط اقتصادية ساعدت على انهاء الأبارثيد في فترة تقل عن عقد من الزمن.

ولكن الصين ليست جنوب افريقيا. فالتمييز العنصري ليس في جوهر القمع هناك. ولم تكن لا قواعد العمل ولا مبادئ سوليفان العالمية الأكثر عمومية والتي اعلنت في الأمم المتحدة عام 1999 مناسبة للوضع على وجه التحديد. وهذا هو السبب الذي يجعل الشركات الأميركية بحاجة الى اعداد قواعد مماثلة لإدارة البزنس بخصائص صينية.

واذ جرى استدعاؤهم امام الكونغرس الشهر الماضي ارتباطا بمساعدتهم الحكومة الصينية على التجسس على المعارضين، فقد ظهر مسؤولون من شركات ياهو وغوغل وسيسكو، كما لو انهم ظهروا من جنوب أفريقيا قبل اربعة عقود، وتجلت نظريتهم القائلة بأن وجودهم التجاري يساعد على تحويل مجتمع الصين الى مجتمع ليبرالي وعلى ازالة القمع.

وذلك تبرير منافق انهزامي للقرارات المتخذة على اساس معايير الأرباح. والأنكى من ذلك انه يجعل من نشوء التغيير متروكا بالكامل بأيدي الحكومة، بدلا من اعطاء العاملين والمستهلكين الصينيين فرصة للتعبير عن رأيهم في ذلك.

مع ذلك، وفي المقابل، فمن الصحيح القول ان الكثير قد تغير فعليا نحو الأفضل منذ عام 1989، وانه لا يمكن عزل الصين اليوم. ولكن يمكن الحديث مع الصين بصراحة وتصميم حول ما يجب ان يتغير، قبل ان تتمكن من أن تكون شريكا حقيقيا للدول الديمقراطية ولمشاريع البزنس الأميركية.

* خدمة مجموعة كتاب «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)