عودة الدب الروسي إلى المياه الدافئة

TT

بعد انتهاء حرب العراق التي شهدت قيام «جبهة» فرنسية ـ روسية ـ ألمانية معادية للتدخل الأميركي، لخصت كوندوليسا رايس، التي كانت وقتها مستشارة الرئيس الأميركي لشون الأمن القومي، بجملة واحدة سياسة بلادها القادمة إزاء الدول الثلاث. قالت رايس: «علينا أن نعاقب فرنسا ونسامح المانيا ونهمل روسيا». وربما مما يفسر «ازدراء» الوزيرة الحالية بموسكو اعتبارها أن روسيا لم تخرج بعد من المخاض الذي ولجته مع انهيار حلف وارسو وتداعي الاتحاد السوفياتي. وبالتالي فإنها بحاجة الى سنوات لتعيد ترتيب بيتها الداخلي قبل أن تعود الى واجهة المسرح الدولي. ولكن بعد أقل من ثلاث سنوات على جملة رايس، يبدو وضع روسيا مختلفا خصوصا في منطقة الشرق الأوسط: موسكو حاضرة على كل «الجبهات»: من إيران الى فلسطين ومن مياه الخليج الى سورية ولبنان مرورا بالعراق وغيره. روسيا عائدة بقوة وديبلوماسيتها اخذت تظهر دينامية متنامية إزاء الأزمات التي تهز هذه المنطقة من العالم. موسكو أضحت مجددا وجهة رئيسية للتعاطي مع هذه الأزمات والدب الروسي عائد بقوة الى المياه الدافئة في الخليج والبحر الأحمر أو الأبيض المتوسط. ووزارة الخارجية الروسية لم تعد قسما ملحقا بوزارة الخارجية الأميركية بل على العكس من ذلك فقد تحولت موسكو الى طرف نشط يقدم مقترحات ويدافع عنها. الديبلوماسية الروسية تسعى لاستعادة مواقع النفوذ التقليدية للديبلوماسية السوفياتية مع فارق التخلي عن العامل الآيديولوجي (الشيوعية أو الاشتراكية) والتركيز على عامل المصالح بالدرجة الأولى معطوفا على ما يمكن أن توفره موسكو بفضل موقعها كـ«قوة عظمى» لها دور رئيسي في مجلس الأمن الدولي.

ومن التجليات الجديدة لديبلوماسية موسكو الدور الذي لعبته (وتلعبه) إزاء تفاعل أزمة الملف النووي الإيراني الذي رسي في مجلس الأمن الدولي. فقد تحولت العاصمة الروسية الى مركز استقطاب رئيسي له حيث فرضت موسكو نفسها وسيطا وحيدا بعد أن اعتبرت طهران أن الترويكا الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية وكذلك الوكالة الدولية للطاقة النووية «طرف» في النزاع. وطيلة أسابيع كانت المقترحات الروسية الوحيدة الموجودة على الطاولة والتي كان بإمكانها إخراج الأزمة من عنق الزجاجة. وكانت موسكو تتصرف بالدرجة الأولى من منطلق مصالحها النووية والاقتصادية المباشرة مع إيران وهي التي تتولى بناء مفاعل بوشهر المطل على الخليج فيما تسعى إيران لبناء مفاعلين آخرين من الطراز عينه تجرى المفاوضات بشأنهما بين البلدين لكنها كانت تتصرف أيضا من وحي «وضعيتها» الاستراتيجية الجديدة ورغبتها في «إثبات» حضورها الجديد في منطقة تعتبرها حيوية لأمنها الوطني ولمصالحها الإستراتيجية. ورغم أن نقل الملف الإيراني الى مجلس الأمن يعكس «فشل» روسيا في تسويق مقترحاتها بخصوصه إلا أن ذلك لا يعني أن تأثيرها عليه قد تلاشى. ذلك أن مجلس الأمن يشكل «رافعة» للنفوذ الروسي السياسي والديبلوماسي وتبدو موسكو عازمة على استغلاله للاستمرار في التأثير على الملف من منطلق موقعها كقطب جاذب وفاعل في المنطقة. موسكو تستفيد من موقعها كدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي تتمتع بحق النقض (الفيتو) لإسماع صوت مختلف وممارسة «سياسة دولة عظمى» وفرض نفسها «شريكا إلزاميا» في أية مناقشات.

وتقوم عودة الديبلوماسية الروسية على الاستفادة من الصعوبات التي تعاني منها الولايات المتحدة الأميركية في العراق وغيره ما يخولها «الانفتاح» على الأطراف «المرذولة» من قبل واشنطن. فموسكو لا تأخذ بالاعتبار المعايير الأميركية في تصنيف البلدان بين «محور شر» و«محور خير». ومن جهة أخرى تتوكأ الديبلوماسية الروسية على بؤر النزاعات والملفات الساخنة لإسماع صوت مختلف عن الصوت الأميركي والغربي بشكل عام. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين فاجأ الكثيرين عندما كشف أمر الدعوة التي وجهت لوفد من حماس لزيارة موسكو فيما كان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية يؤكدان على مقاطعة حماس سياسيا وديبلوماسيا ويفرضان عليها مجموعة من الشروط لإقامة الاتصال معها ويهددان بقطع المساعدات المالية والاقتصادية عنها. ولقد احتاطت الديبلوماسية الروسية بوضع المحادثات بين وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف وبين خالد مشعل في إطار السعي «لإفهام حماس ما تنتظره منها المجموعة الدولية» والطلب منه الاستجابة للشروط الثلاثة التالية: التخلي عن العنف، الاعتراف بإسرائيل والاعتراف بأوسلو وما تفرع عنها.. لكن الأهم أن موسكو سلكت، مرة أخرى، طريقا مغايرا للطريق الأميركي والغربي، ما يسلط الضوء على «استقلالية» ديبلوماسيتها وسياستها في الشرق الأوسط بعد سنوات الغياب «القسري» عن ملف النزاع العربي ـ الإسرائيلي رغم كون روسيا طرفا في اللجنة الرباعية. وتندرج زيارة بوتين الى المنطقة في اطار العودة الى لعب دور ما في هذا النزاع.

وما قامت به روسيا إزاء حماس تمارس مثله في ما خص الملف السوري ـ اللبناني. فدمشق تخضع بشكل غير رسمي منذ خريف العام 2004 ، وخصوصا منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في 14 فبراير/ شباط 2005 لمقاطعة ديبلوماسية غربية كجزء من الضغوط التي تمارس عليها، لحملها على التعاون لتطبيق القرارين 1559 و 1595 وملحقاتهما. وباستثناء زيارة قصيرة قام بها وزير الخارجية الإسباني ميغيل أنخيل موراتينوس الى دمشق قبل ايام، فإن طريق العاصمة السورية لا يسلكها وزراء خارجية الدول الغربية فيما العواصم الغربية مقفلة بوجه الديبلوماسيين والمسؤولين السوريين. وكما في حالة حماس، فقد استقبلت موسكو وزير خارجية سورية وليد المعلم الاثنين الماضي. وقبل ذلك، عملت موسكو باستمرار على جعل قرارات مجلس الأمن «أقل قسوة» على سورية عندما لم تنجح في الحؤول دون صدورها كما حصل بخصوص القرار 1559 حيث امتنعت روسيا عن التصويت عليه.

وكما في زمن الاتحاد السوفياتي عاد السلاح ليكون وسيلة بيد الديبلوماسية الروسية. فروسيا باعت أنظمة صاروخية قصيرة المدى لسورية غير عابئة بالاحتجاجات الأميركية أو الإسرائيلية. وفي شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وقعت صفقة أسلحة ضخمة مع إيران أهمها تزويدها بأنظمة صاروخية للدفاع الجوي والصاروخي بقيمة مليار دولار. ومعروف أن روسيا هي المصدر شبه الوحيد للسلاح الى إيران. وتندرج في السياق عينه الصفقات الدفاعية الكبرى التي توصلت اليها روسيا مع الجزائر حيث تفيد المصادر الروسية بأن العقود الدفاعية في الأشهر الثلاثة الأخيرة تصل الى 7.5 مليار دولار منها 3.5 مليار دولار لشراء نماذج متعددة من الطائرات الحربية الروسية. وكانت روسيا قد أعلنت خلال زيارة بوتين للجزائر إلغاء كامل الديون الجزائرية المستحقة لها وقيمتها 4.7 مليار دولار مقابل شراء الجزائر أسلحة ومعدات وبضائع روسية مختلفة. وعلقت مجلة «كومرسانت» الروسية على الصفقات بقولها إنها «الأهم في تاريخ التعاون الصناعي ـ الدفاعي الروسي».

وهكذا تبدو موسكو قد ولجت «عهدا جديدا» في حضورها الشرق أوسطي. وعلق أفغيني ساتانوفسكي، مدير معهد دراسات الشرق الأوسط في موسكو على التوجه الجديد بقوله إن روسيا «أخذت تتصرف كقوة مستقلة» إذ أن «التبعية للغرب انتهت»، وروسيا تلعب «دور الوساطة بين العرب وبين العالم الإسلامي».