نظرتان

TT

«هجوم اللواء الخفيف» من أشهر المعارك الدموية التي خاضها الجيش البريطاني واحتلت مكاناً خالداً في التاريخ والفن والأدب.

هاجمت فيها الخيالة البريطانية في حرب القرم في القرن التاسع عشر مواقع حصينة للمدفعية الروسية عبر ما سمي بوادي الموت.

كان هجوماً انتحارياً في غاية الحمق أسفر عن ابادة اللواء. امرت الملكة فكتوريا شاعر البلاط اللواء تنيسن بتخليد المعركة شعراً فنظم القصيدة الشهيرة «هجوم اللواء، الخفيف» (The Charge Of The Light Brigade).

بوحي القصيدة اخرجت شركة ورنر بروذرز الأميركية فيلماً سينمائياً عن المعركة في الثلاثينات. وقبيل سنوات قليلة اخرج الانجليز فيلماً آخر ببطولة الممثلة الشهيرة فنيارد غرين عن نفس المعركة. اختلف الفيلمان عن بعضهما البعض اختلاف الأرض عن السماء. الفيلم الانجليزي يعرض المعركة عرضاً واقعياً اميناً على التاريخ كحماقة من حماقات العسكريين واستهتارهم بأرواح جنودهم. الفيلم الأميركي الهوليوودي من الناحية الأخرى يعرض المعركة عرضاً خيالياً لا يمت بصلة للوقائع التاريخية. فهنا نقل المخرج وكاتب السيناريو احداث الفيلم الى الهند التي لم يكن لها أي دور في الموضوع ولا ورد لها اي ذكر في قصيدة اللورد تنيسن التي رجعت اليها. الشيء المزعج في هذا النزوق القصصي ان الكاتب والمخرج والمنتج عمدوا إلى هذا الاستطراد الاعتباطي ونقل الاحداث الى الهند ليصوروا المسلمين الهنود تصويراً مفعما بالعنصرية كقوم خسيسين لا يؤتمنون ولا يعبأون بأرواح النساء والأطفال: ينتهزون اول فرصة لإظهار روحهم الارهابية الدموية. يهرب ملكهم الى روسيا ويشارك الروس في صب النيران على الانجليز رسل المدنية، مدينة الرجل الابيض. ينتهي الفيلم بذلك المشهد الميلودرامي الذي ينتقم فيه قائد اللواء الخفيف من الملك الهندي الغدّار بطعنة ماضية يغرس فيها رمحه بصدر الهندي المتمرد. وكله حسب وصفات هوليوود النمطية لنهايات الأفلام. لا بأس في ان توزع هوليوود هذا الفيلم كقصة مغامرات وعنتريات خيالية من نوع افلام رعاة البقر لا تمت للواقع بصلة، ولكن المشين في ان يجرى تقديم هذا الفيلم كوثيقة تاريخية تأخذ اسمها من عنوان قصيدة اللورد تنيسن وتستشهد بأبيات منها وتذكر الملكة فكتوريا كراعية للحكاية وتعرض على الشاشة بين الحين والحين مقتبسات تاريخية توحي للمشاهد البريء بأن الفيلم من أوله إلى آخره سجل تاريخي. انها عملية غادرة مجردة من اي امانة أو مصداقية.

لا أدري لماذا أضعت وقتي بمشاهدة هذا الفيلم بعد ان عقدت منذ سنين رأيي على تحاشي مشاهدة اي فيلم تاريخي يأتي من هوليوود، حفاظاً على براءة فكري ونقاوة معلوماتي. افلام أميركية فكاهية او استعراضية أو رومانطيقية، نعم واهلاً وسهلاً. ولكن حذار من ارتياد العلم والتاريخ في الافلام الأميركية. شيئان لا قدرة لأميركا على تبنيهما: الموضوعية التاريخية ورعاية الديمقراطية والعدالة.

نعم وشيء ثالث نظافة يدها من التعامل مع القضية الفلسطينية ولكن برنارد شو قال رأيه فيها: الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي وصلت مرحلة الانحطاط دون أن تمر بمرحلة الحضارة.