صفقة موانئ دبي: الكونغرس الأميركي ليس دائما على حق

TT

قال الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش، إن افشال الكونغرس صفقة شركة موانئ دبي العالمية، سيوّلد ردود فعل سلبية لدى حلفاء واشنطن في العالم وبالذات في الشرق الاوسط، في حين انه من اجل الانتصار في الحرب على الارهاب تحتاج واشنطن الى تمتين علاقاتها مع الدول العربية المعتدلة في الشرق الاوسط.

منذ اكثر من ثلاث سنوات لم تصدر عبارة صائبة من فم الرئيس الاميركي، وقد تكون هذه من المرات النادرة، لأن الهجوم الذي شنه اعضاء الكونغرس من ديموقراطيين وجمهوريين على تسلم شركة موانئ دبي العالمية ادارة ستة مرافىء اميركية، لن تستغله حكومات الدول العربية المعتدلة لاسيما تلك الحريصة على استقرارها وازدهارها مثل دولة الامارات العربية المتحدة، والكويت وقطر، بل سيستغله الراديكاليون والجهاديون بطروحات تدعّي ان الاعتدال والثروة والتعاون، لن تجعل الغرب ينظر باحترام الى العرب والمسلمين، وانه لا يفّرق بين من هو معتدل ومن هو متشدد.

ثورة اعضاء الكونغرس على صفقة شركة موانئ دبي، مثال واضح على قدرة السياسيين الاميركيين، خصوصاً في موسم الحملات الانتخابية، على تحويل عاصفة في فنجان الى ازمة تكون لها ارتدادات سلبية، اذ ما الذي سيمنع حاكماً عربياً ، يشعر بأنه اذا لم يكن في استطاعته ان يستثمر دولاراته في الولايات المتحدة التي تعاني عجزاً فائقاً في ميزانيتها، يكون من الافضل له ان يطلب مقابل النفط اليورو، او الين، او الذهب؟ وعلى صعيد اوسع، فإن «عويل» الكونغرس غير المنطقي،اثار شكوك العالم، الذي تأكد من ان العولمة التي اصرت الادارات الاميركية المتعاقبة على فرضها على بقية الدول، تعني ان تسمح هذه الدول للشركات الاميركية بالاستثمار في اي مكان تختاره على الكرة الارضية، في حين لا يحق للشركات غير الاميركية ان تحذو حذوها داخل اميركا.

ازمة الموانئ الاميركية التقطها الديموقراطيون بتلهف المستغلين وفاقدي البصيرة، لانهم ليسوا مصابين جميعهم بداء الخوف من الاجنبي مثل الجمهوريين، لكنهم اسرع في استغلال كل شيء. وبينما ناخبوهم يعتبرون ان الحرب على العراق كارثة حتى قبل اشتعالها، الا ان سناتوري نيويورك هيلاري كلينتون وتشارلز شومر حتى الآن لم يسحبا دعمهما للحرب، لا بل قادا الحملة لإفشال صفقة شركة موانئ دبي التي تملكها دولة هي اقرب الى الاميركيين في انفتاحها وتقدمها.وليس صحيحاً ان الشعور الاميركي الوطني المستفيض ضد الاجنبي هو الذي حرّك حميّة اعضاء الكونغرس ، ذلك ان شركة تملكها الدولة الصينية تدير ميناء في لوس انجيلوس ولم تظهر اي معارضة لها حتى الآن.هناك من يقول ان الرئيس السابق بيل كلينتون (زوج السناتور هيلاري)، كان بين من شجع حكومة دبي على صفقة شراء شركة «بي اند او» البريطانية مالكة الموانئ الاميركية، في حين ان زوجته ، وربما هنا تضاربت المصالح، شنت الحملة على صفقة دبي لهدف بعيد وهو الوصول الى البيت الابيض، مع ان الديموقراطيين يحسمون بأنها عامل تجزئة في الحزب وليست عامل توحيد، وانه اذا تم ترشيحها ـ وهذا مستبعد ـ سيضمن الجمهوريون الفوز للمرة الثالثة.

لكن لا بد من البحث عن الذي حرّك هذه العاصفة في الاساس،ضد الرئيس الاميركي. انه فرانك غافني مؤسس ورئيس «مركز السياسة الامنية» في واشنطن. كان غافني اول من التقط موافقة الحكومة الاميركية على السماح لدبي بادارة الموانئ الاميركية الستة، فكان ان طرح في عموده الاسبوعي في «الواشنطن تايمز» في 14 شباط (فبراير) الماضي السؤال التالي على قرائه: «ما سيكون شعوركم لو انه بعد عمليات 11سبتمبر، قررت الحكومة الاميركية توكيل امر حماية الامن في مطاراتنا، الى الدولة التي جاء منها التخطيط والتمويل والتنفيذ للعمليات الارهابية التي طالتنا (...)، ان معظم الاميركيين سيعتبرون الفكرة جنونية بالطبع، لانها ستؤدي الى عمليات ارهابية اخرى»، واضاف غافني في مقاله: «اذا رفض الرئيس التراجع، فان على الكونغرس العمل كي لا يسمح لدولة الامارات العربية المتحدة بتشغيل اي ميناء اميركي».

تجاوب مع نداء غافني وهب للمساعدة كتّاب المقالات من اليمين المتطرف، وافسحت شبكة «فوكس نيوز» المجال له بتكرار تحذيراته المثيرة، ويقول لي مصدر اميركي، ان غافني بتهويلاته هذه كان يشبه المستعمر بول رفيري الذي دار على المدن المحيطة ببوسطن عشية حرب الاستقلال، مطلقا تحذيره الشهير: «ان البريطانيين قادمون».

بعد ثمانية ايام على نشره مقاله ذاك، اعلن غافني انتصاره في مقال آخر نشره على موقع «ناشينال ريفيو» وقال فيه: «لقد تراجع الرئيس بوش عن معركة كان حتماً سيخسرها»، واكد ان الاتفاق سيُجهض، وهذا ما حصل مع تنافس اعضاء الكونغرس على افشال صفقة الموانئ.

ما اقدم عليه غافني ليس بمستغرب، فهو يصف مركزه بـ «القوات الخاصة في حرب الافكار على الاعداء». يقول محدثي من واشنطن، انه منذ تأسيس المركز عام 1988 تضمنت لائحة الاعداء الاتحاد السوفياتي وحلفاءه،الصين، اتفاقية اوسلو، العرب وعلى الاخص الفلسطينيين، الامم المتحدة، وقانون البحار، وكل طرف عارض ميزانيات الدفاع الضخمة وبرامجها المكلفة حتى ولو كانت تلك البرامج غير قابلة للتحقيق مثل برامج الصواريخ الدفاعية وحرب النجوم، وأخيرا كان العدو «الفاشية الاسلامية» المتمثلة برأيه بتنظيم القاعدة، والسعودية، والامارات العربية المتحدة، وإيران. ويضيف محدثي ان الاعداء الآخرين هم كل الاساتذة في دراسات الشرق الاوسط، والخبراء في قضايا الشرق الاوسط في الخارجية الاميركية ووكالة الاستخبارات المركزية، حتى رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق ارييل شارون دخل في خانة الاعداء حيث اعتبر غافني ان قراره الانسحاب من غزة «سيشكل خطراً على العالم الحر بأسره وعلى قادته بمن فيهم الولايات المتحدة الاميركية».

مثل بقية المحافظين الجدد بدأ غافني حياته السياسية في اوائل السبعينات في صفوف الليبراليين الديموقراطيين قبل ان يصبح من الصقور، وينضم الى فريق عمل رئيس لجنة العلاقات المسلحة هنري (سكوب) جاكسون، وهو من اشد المؤيدين لإسرائيل. في الثمانينات استعان ريتشارد بيرل وكان صار مسؤولاً كبيراً في البنتاغون في عهد الرئيس رونالد ريغان، بغافني الذي اصبح في ما بعد مساعدا لوزير الدفاع في سياسة الامن الدولي، وعبر منصبه هذا صار من اشد الداعين الى تحقيق برامج «حرب النجوم»، وعارض بشدة نقل الاسلحة الاميركية المتطورة جداً لحلفاء واشنطن الاوروبيين. ظل غافني في وزارة الدفاع حتى عام 1987عندما أُخرج وآخرون عقب فضيحة ايران ـ كونترا.

عندما غادر الحكومة اسس «مركز السياسة الامنية» بمساعدة ريتشارد بيرل، وتلقى دعما من اغلب شركات السلاح التي استفادت من برنامج «حرب النجوم»، ونال اعجاب ودعم ايرفنغ موسكوفيتش احد اكثر المؤيدين لحزب الليكود والذي ارسل ملايين الدولارات لأكثر حركات الاستيطان الاسرائيلي تشدداً. واخيرا شارك غافني في مجالس ادارة مؤسسات عدة منها: «مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات» (اسستها مجموعة موالية لليكود بعد يومين من عمليات 11سبتمبر)، «اميركيون للانتصار على الارهاب»، «لجنة الخطر الحالي»، و«اطلقوا سراح اميركا» (تجمع جديد من المحافظين الجدد، ومجموعات من اليهود المتشددين والخضر يهدف الى تقليص الاعتماد الاميركي على استيراد النفط).

غافني مثله مثل زملائه من الجناح اليميني المتعصب، وبالتوازي مع هوسه بالصواريخ الدفاعية، كان مهووساً حتى 11 سبتمبر، بـ«الاخطار التي تشكلها الدول»، وخصوصاً الصين، وكوريا الشمالية، والعراق وسوريا. بعد عمليات 11سبتمبر تحوّل هوسه الى «الحرب العالمية على الارهاب» وصارت محور تفكيره وكتاباته، وحدد مواصفات العدو الجديد بـ «الفاشية الاسلامية»، مما يعني باعترافه ان الحرب ابعد واعمق من الحرب الدائرة في العراق وافغانستان، بل تشمل دولاً أخرى حددها غافني في كتاباته وهي: السعودية، ايران، سوريا، باكستان، كوريا الشمالية، الصين، كوبا، فنزويلا وجنوب افريقيا. كل هذه الدول ـ في نظره ـ توفر بطريقة مباشرة او غير مباشرة الدعم لـ«الفاشية الاسلامية»، في صراعها المستميت ضدنا».

نشر غافني اراءه في كيفية دحر واشنطن لاعدائها في كتاب جديد ساهم فيه اخيراً يحمل عنوان: «الخطوات العشر التي يجب على اميركا الاقدام عليها للبقاء والتفوق في الحرب من اجل العالم الحر». وفي حين ان «الموضة» الفكرية التي قرر غافني ارتداءها في هذه المرحلة، هي تسويق حماية الموانئ الاميركية من «الفاشية الاسلامية»، الا ان الطموح النووي الايراني يقض مضجعه، وفي نقاش جرى اخيراً في الكونغرس حول الخطر الحالي، حذر غافني من «ان طهران تعمل على الحصول على قدرات تستطيع ان تدّمر اميركا التي نعرفها»، واعتبر ان برنامج الصواريخ الايرانية مصمم بطريقة تفجّر السلاح النووي فوق الولايات المتحدة «وتقذف مادة كهربائية ـ ممغنطة تدّمر كل المحطات الكهربائية الاميركية، ونتيجة لذلك ستعود الولايات المتحدة برمشة عين الى ما قبل العصر الصناعي»!!!

أنضحك ام نبكي، والكونغرس يصغي الى هذه الخزعبلات (ولا بد ان يكون هناك من ترجمها للرئيس الايراني محمود احمدي نجاد)، ثم فجأة ينسى غافني وأعضاء الكونغرس «مظلة الاخطار» هذه، ليرشدهم ويتبعونه، الى ان الامن الاميركي مهدد بـ6.8مليار من الدولارات، وان اصحاب هذا المبلغ انما وضعوه لتسهيل دخول الارهابيين الى اميركا.

المشكلة ان العالم العربي سيظل يدفع ثمن الاخطاء الاميركية في المنطقة (ليس معروفاً بعد ثمن الحرب العراقية)، والازمة الاخيرة لن تدفع باغلبية العرب والمسلمين الى اللجوء الى العنف، لكن الغضب سيتنامى وسيوفر صيداً ثميناً للحركات الجهادية. ويعود الشكرلغافني واهدافه المعروفة ولاعضاء وصوليين واصوليين في الكونغرس، لأن فشل صفقة الموانئ سيزيد من الاخطار الامنية، رغم ان الحماية الامنية كانت السبب الظاهري لنسف الصفقة.