مكانة الدولة.. والمسكوت عنه في الخطاب العربي

TT

في مطلع الستينات كتب عالم اجتماع إفريقي شاب كتابا حول الدولة الأفريقية الناشئة من رحم الاستعمار، اشتكى فيه من ضعفها وهامشيتها. وما إن عاد إلى بلاده من مهجره الأوروبي حيث كان يتابع دراسته، حتى ألقت به حكومته في السجن بتهمة الدعاية المغرضة ضد سيادة الدولة وهيبتها.

وبعد خروجه من السجن، رجع الباحث الشاب إلى أوروبا وكتب كتابا آخر مغايرا لأطروحته الأولى، اشتكى فيه من قسوة وسيطرة الدولة وتحكمها في المجتمع وتضييقها لهامش حريته.وترمز هذه القصة الواقعية إلى مفارقة دولة الاستقلال التي تجمع بين هشاشة البنيات والمرتكزات السياسية والبيروقراطية والمسلك التعسفي الكلياني، مما يجعلها في آن واحد ضعيفة الحضور والأداء، قاسية التحكم والسيطرة. وتنعكس هذه المفارقة في الخطاب العربي السائد في تأرجح حاد ما بين النزوع إلى التبشير بالدولة القوية والدفاع عنها، والميل إلى المطالبة بالحد من هيمنتها ووضع القيود على حركتها من منطلق تفعيل المجتمع المدني وتكريس الحريات العامة. ومع أن الاتجاه الثاني قد تدعم في السنوات الأخيرة، إلا أن مطلب الدولة القوية لا يزال هو الثابت البنيوي في الخطاب السياسي العربي بمختلف تشكلاته وألوانه. وباستعراض الملفات العربية الساخنة هذه الأيام نجدها تتبنى تلك الحقيقة الراسخة. ففي العراق، حيث لا يزال مخاض التحول عسيرا قاسيا، ينقسم الشارع السياسي بين دعاة الدولة المركزية القوية (ولو بثمن الأحادية والاستبداد)، ودعاة النموذج الفيدرالي المرن الذي يحمي التنوع القومي والطائفي (ولو بثمن التفكك الفعلي). ومن منطلق الحاجة إلى الدولة القوية تم تبرير تعليق المسار الديمقراطي في الجزائر في بداية التسعينات لاتقاء الفتنة والاضطراب، كما تم تبرير قمع الانفصاليين الجنوبيين في اليمن في منتصف العقد الماضي، وبالمنطق نفسه تم تبرير تأجيل الإصلاحات الديمقراطية في بلدان عربية عديدة، للحفاظ على وحدة المجتمع والحيلولة دون اختراقه أجنبيا.

فمن المسلمات الراسخة لدى الساسة والمفكرين العرب أن الدولة القوية هي الشرط اللازم لتحقيق حاجيات المجتمع العربي من تحديث وتنمية وتحقيق أمن قومي ودفاع عن الأرض. فبالنسبة للقومي العربي التقليدي لا بد من بناء دولة مركز، تكون النواة المحورية للوحدة المنشودة، وبالنسبة لليبرالي، تقوم الحاجة للنموذج نفسه لتحديث المجتمع ونهوضه. ومن المنطلق نفسه يصدر الإسلامي في نظرته للدولة الإسلامية القوية المؤهلة لتطبيق الشرع السماوي.

إن لهذا التصور خلفية فكرية مركبة يمتزج فيها العامل التراثي الموروث بالثقافة السياسية المستوردة من الغرب الحديث. فغني عن البيان أن التقليد الإسلامي الوسيط قد تمحور حول فكرة الإمامة الحارسة للدين الراعية لمصالح العباد، حسب تعبيرات كتب الأحكام السلطانية. فعلى الرغم من الاختلاف حول طبيعة وجوب نصب الإمام (هل هو واجب شرعي أو عقلي)، إلا أن جل الفقهاء قد أناط بالحاكم مسؤولية حماية الدين وإقامة شرائعه، حتى ولو كان المجتمع الإسلامي طور طيلة تاريخه حلولا بديلة عن الدولة المركزية في فترات الاضطراب وانهيار الدولة المركزية، لعل مثلها الأبرز هو «أحكام بلاد السيبة» التي أبدعها علماء بلاد شنقيط (موريتانيا) في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للتدليل على قدرة المجتمع المسلم على إقامة الدين في غياب السلطة المركزية. إلا أن هاجس الفتنة (وخطرها المهدد للملة والأمة) ولد نمطا من الانجذاب المفرط للحكم القوي القادر على تأمين السلم والأمن، ولو بثمن الطغيان والظلم، ومن ثم تمديد غطاء الشرعية على سلطة المتغلب وفرض الطاعة له. وعلى الرغم من اختلاف سياق الإمامة الوسيطة عن نموذج الدولة المركزية الحديثة، إلا أن الأحكام السلطانية توظف راهنا في دعم هذه الدولة وتكريس الولاء لها.

وقد كان من المشاهد الطريفة في موريتانيا في آخر عهد الرئيس السابق ولد الطايع تسابق الفقهاء المقربون من النظام الحاكم في مجابهة التيار الإسلامي المتصاعد بأحكام الفقهاء المالكيين المشددة على وجوب طاعة الحاكم وعدم الخروج عليه، مما بدا غريبا في سياق حملة انتخابية اتخذت شكل منافسة ديمقراطية حديثة.

ويسقط التيار الإحيائي (على لغة صديقنا رضوان السيد) في الفخ نفسه بطرحه لفكرة الدولة الاسلامية دون وعي بطبيعة و محددات الدولة الوطنية الحديثة، التي تقوم على مرتكزين أساسيين هما مفهوم «السيادة» (أي سيادة الأمة مصدرا للشرعية) وشمولية التحكم بصفتها التجسيد الرمزي والتاريخي للهوية الجماعية.

فالدولة من هذا المنظور تتجاوز إطار الحكم الذي يجري استيعابه وتجازوه في بنية هذا الكيان المركزي المطلق..

ومن هنا يمكن القول إن الدولة في المجتمعات الغريبة (كما بينت الفلسفات الحديثة منذ هوبز واسبينوزا، انتهاء بهيغل) قد عوضت الدين نفسه في منظوره القيمي الشمولي. ولذا فإن المطالبة بالدولة الإسلامية دون الوعي بهذه الحقيقة يعني تحويل الإسلام نفسه إلى ايديولوجيا للسلطة يوظف في منطق الدولة ككيان قومي كلي، وهو الأمر الذي يحدث حاليا في إيران وقد حدث من قبل في السودان أيام بدايات الإنقاذ. ولا يعني نفد هذا الموقف الارتماء في المقاييس العلمانية، إذ إن مدار الأمر متعلق بالموقف من الدولة القومية ذات السيادة الشمولية، التي هي نموذج تاريخي نشأ في عصور الحداثة، وخضع لسلسلة انتقادات جذرية بدأت منذ روسو في القرن الثامن عشر (في بعض نصوصه الهامة)، وتعمقت في السنوات الأخيرة في بعض الأدبيات الفسلفية التي نبهت إلى الطابع الكلياني المغلق لهذا النموذج الذي ليس بالشكل الأوحد لتنظيم الاجتماع السياسي (من آخر تجليات هذا الاتجاه النقدي كتابات توني نغري وجورجيو أغامبن).

وحاصل الأمر، أن المسكوت عنه في خطابنا السياسي العربي الرائج هو التفكير في شكل الدولة ونمط بنائها، بدل الانجذاب إليها دون وعي تاريخي نقدي، رهانا على قدرتها على تحقيق حاجياتنا التحديثية التنموية، بإضفاء القداسة عليها وتحميلها قدرا تاريخيا عاجزة عنه. ولئن كانت الفتنة شرا يتعين اتقاؤها، والنظام السياسي المحكم حاجة اجتماعية لا غنى عنها، إلا أن الدولة (بمفهومها الحديث المتداول) ليست سوى شكل من أشكال هذا النظام، وقد عجزنا في تاريخنا المعاصر عن استنباته وتجذيره.