اقتحام سجن أريحا.. المغزى والدلالات

TT

الاقتحام المفاجئ لسجن أريحا من قبل القوات الإسرائيلية واعتقال المطلوبين للسلطات الإسرائيلية، وعلى رأسهم أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ورفاقه الأربعة، اعتبره الكثير من المراقبين المحليين والدوليين اختراقا خطيرا للمعاهدات والاتفاقات المبرمة ما بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية والأطراف الدولية. ففي حين رأى هذا البعض في السلوك الإسرائيلي مؤشرا خطيرا يضع مصداقية كل الاتفاقات ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين، التي أشرفت عليها ورعتها الأطراف الدولية، على المحك، رأى فيها البعض الآخر مؤشرات أخرى ترتبط بشكل وثيق بما يجري في داخل كل من إسرائيل من تحضير للانتخابات التشريعية، بالتزامن مع المشاورات التي تجريها حركة حماس مع بقية الفصائل الفلسطينية لتشكيل الحكومة الجديدة. وبغض النظر عما تناقلته الروايات المختلفة، سواء من قبل إسرائيل أو المصادر البريطانية والأمريكية وكذلك السلطة الوطنية الفلسطينية، عن الأسباب التي أدت إلى ذلك الاختراق الإسرائيلي غير المسبوق في حدته وسرعته، فإن هناك بلا شك الكثير من الأسئلة عن مغزى ودلالات العملية الإسرائيلية وتداعياتها المستقبلية في الداخل الفلسطيني.

لماذا الآن ؟

لقد مضى على اعتقال سعدات ورفاقه ما يقارب الأربع سنوات، وذلك وفقا لاتفاق إسرائيلي ـ فلسطيني دولي احترمته كل الأطراف المعنية. ولعل الإجابة عن مغزى توقيت السلوك الإسرائيلي لا يستقيم برده كله إلى الطبيعة العدوانية لإسرائيل، لأن هذه الطبيعة كانت حاضرة على الدوام في هذا السلوك، بل إن قراءة ما يجري من تحركات سياسية في الداخلين الإسرائيلي والفلسطيني تجيب عن الكثير من الأسباب التي تدفع بإسرائيل إلى تجاوز حجم الإدانة والتنديد الدولي، لتصل إلى ما تعتبره مصلحة حيوية مباشرة لها.

قراءة الطرف الإسرائيلي لتحركات حماس من أجل تشكيل حكومتها وعلى الأخص توجهها للاتفاق مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي أعلنت عن قبولها المشاركة شرط إطلاق سراح أمينها العام أحمد سعدات، هي، من هذا المنطلق، أحد أهم الأسباب. كما أن إسرائيل التي رأت في فوز حماس التي تعتبرها «تنظيما إرهابيا» لا يعترف بحقها في الوجود، وتدعو إلى تدميرها وكانت صعدت إثر هذا الفوز من إجراءاتها العقابية ضد الفلسطينيين، رأت أيضا في توجهات هذه الحركة لتشكيل حكومتها تهديدا إضافيا.

توجه حركة حماس إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لتشاركها في حكومة ائتلافية هو بحد ذاته خطوة تعتبرها إسرائيل استفزازية، كما أن إعلان هذه الجبهة الشعبية لشرطها إطلاق سراح أمينها العام من السجن يشكل خطوة استفزازية إضافية بما هي تحد آخر للإرادة الإسرائيلية. ولا شك أن إسرائيل أدركت صعوبة ابتلاعها لما تراه على الضفة الفلسطينية، من دون أن يؤثر هذا سلبا على نتائج الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية المزمع إجراؤها في الأسبوع الأخير من هذا الشهر.

ومما لا شك فيه أن إطلاق سراح سعدات، المتورط في اغتيال وزير السياحة الأسبق في حكومة شارون في العام 2001، كما احتمال إعلان سعدات وزيرا في حكومة فلسطينية، سيفقد حزب شارون ـ إيهود أولمرت «كاديما» أصوات الكثير من الإسرائيليين الذين سيرون أن ساستهم هؤلاء لم يفشلوا فقط في معاقبة من تعتبرهم «إرهابيين»، بل انهم أيضا وبالمقدار ذاته عاجزون عن الفعل وهم يرون كيف يكافأ من يقتل الإسرائيلي.

الخطوة الإسرائيلية إذن من هذا المنظور تضيف رصيدا جديدا يحتاجه حزب إيهود أولمرت، كما أن الإجراء الإسرائيلي الأخير في سجن أريحا بهذا المعنى رسالة مليئة بالوعود إلى الناخب الإسرائيلي، بأن الإجراءات الإسرائيلية التي تجلت في الانسحاب من غزة وبعض المستوطنات في شمال الضفة، كما الحديث عن تنازلات مؤلمة، لا يعني أن حماسة من قاموا بها قد فترت في مضمار الإصرار على ملاحقة «الإرهابيين» أو معاقبتهم، كما تحاول الأحزاب المتشددة والمنافسة لحزب «كاديما» أن تشيع، أضف إلى ذلك أن المجتمع الإسرائيلي يرى في خطوة إطلاق سعدات وتنصيبه وزيرا في حكومة فلسطينية، استفزازا وإهانة لهيبة إسرائيل وقوتها. هذا على الأقل ما يراه بعض المراقبين الإسرائيليين في الخطوة الفلسطينية. وربما لا يقتصر أمر تفسير الموقف الإسرائيلي عند هذا الحد، بل ربما تعداه إلى أسباب مرتبطة إلى حد كبير بمحاولة إسرائيل ودول إقليمية لإعادة خلط الأوراق في الساحة الفلسطينية، بحيث لا تعود سمة انسداد الآفاق لعدم التوجه إلى حل فقط هي السمة الطاغية، بل لعل النظرة المتفحصة لأحداث العنف المنفلتة من عقالها أثناء اقتحام سجن أريحا والتي توقعتها إسرائيل، وأرادت من خلالها إيصال رسالة إلى الدول الأوربية، التي كان محمود عباس، الرئيس الفلسطيني، يزورها لتأمين الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، تصب جميعها في الهدف.

أحداث العنف التي طالت المقرات والهيئات المدنية الدولية ودون تمييز من قبل مرتكبيها من بعض المسلحين الفلسطينيين، كما الاعتداء بالخطف على شخصيات أجنبية تعمل في الحقل المدني والإنساني في الأراضي الفلسطينية، كان من نتائجها ليس مطالبة الخارجية البريطانية لرعاياها بمغادرة الأراضي الفلسطينية حفاظا على أمنهم الشخصي فحسب، بل تعدتها إلى محاصرة الفلسطينيين من جديد من خلال انسحاب القوات الدولية من معبر رفح، حفاظا على أمنهم الشخصي في وجه موجة العنف وإغلاقه في وجه البضائع والمدنيين، إضافة إلى إغلاق جسر الملك حسين بين الضفة الغربية والأردن. هذا كله أرادت من خلاله إسرائيل توجيه رسالة إلى دول العالم بعدم استحقاق الفلسطينيين للمساعدة.

التداعيات التي يجري استشرافها على أحداث سجن أريحا ستؤثر بالضرورة بهذا القدر أو ذاك على العلاقة الفلسطينية. وستحاول جميع الأطراف المعارضة لسياسة الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن تستفيد من هذا الخرق الإسرائيلي الفاضح لاتفاق دولي لصالح برامجها السياسية والآيديولوجية الداعية منذ البداية لعدم المراهنة على أميركا ووعودها واتفاقاتها بالنسبة للفلسطينيين، ما يعني ضمنا إضعافا لدور الرئاسة الفلسطينية التي التزمت الاتفاقات الدولية في ما يتعلق بتسوية القضية الفلسطينية عبر المفاوضات.

وفي كل الأحوال فإن العملية الإسرائيلية أدت إلى إحراج الرئيس عباس تماما، كما ستؤدي إلى فتح ملفات الاتفاقات الدولية ومدى جدية الأطراف الدولية في تطبيقها، الأمر الذي يعني أن اختلاط الأوراق في الوضع الفلسطيني لا يزال ينذر بالكثير من التداعيات.

* صحافية فلسطينية مقيمة في فيينا