واقعة أريحا: محك المفاضلة بين ما بعد وما قبل أوسلو

TT

ما حدث في سجن أريحا، وعلى أهميته في حد ذاته، يجب أن يُفهم فلسطينيا بطريقة تترتب عليها نتائج عملية في المقام الأول، وتفوق بأهميتها كثيرا، وكثيرا جدا، الحدث ذاته. لقد حان للفلسطينيين والعرب أن يبتعدوا بعيونهم عن «الشجرة» حتى يتمكنوا من رؤية «الغابة» الواقعة خلفها، فما أُنجز من حل وسلام، هو الشجرة في مثالنا، إنما هو خير دليل عملي وحيّ على أن الاحتلال الإسرائيلي في أسوأ صوره وأشكاله هو الذي يتحكم في كل أوجه الحياة الفلسطينية، وكأن لا حل تقوم له قائمة إلا الحل الذي فيه، وبه، يستمر الاحتلال، من حيث الجوهر والأساس، ويلبس ألف لبوس ولبوس.

إسرائيل في عهدي شارون واولمرت، وهما عهد واحد، قررت إغلاق «باب المفاوضات» نهائيا، فمصالحها الإستراتيجية قضت بأن تحل من طرف واحد كل مشاكلها المتفرعة من صراعها التاريخي الطويل مع الفلسطينيين، فليغسل الفلسطينيون، جميعا، عقولهم من وهم أن الحل الذي يريدون، والذي يحظى بالشرعية الدولية، ما زال ممكنا عبر التفاوض السياسي، فهم مدعوون، إسرائيليا ودوليا، وحتى عربيا، ليس إلى تلبية شروط ومطالب في سبيل فتح باب المفاوضات، وإنما إلى تلبية شروط ومطالب لا تترتب على تلبيتها إلا نتيجة واحدة فحسب هي أن يغلقوا بأيديهم «باب المقاومة». وعليهم، بالتالي، أن يحلوا مشكلاتهم بما يتفق وحقائق الوضع الجديد الناشىئ عن إغلاق هذين البابين معا.من هنا فالواقع إنما يدعو الفلسطينيين إلى أن يفاضلوا بين نمطين من الاحتلال الإسرائيلي، هما «احتلال ما قبل أوسلو» و«احتلال ما بعد أوسلو»، فالوهم القاتل بعينه أن يعتقدوا أنهم مدعوون إلى المفاضلة بين «الاحتلال» و«إنهائه». وإذا كان لا بد لهم من أن يختاروا بين أمرين أحلاهما مر فليختاروا الاحتلال الإسرائيلي في نمطه الأول، فهو يقلص، ولا يوسع، المسافة بينهم وبين تحررهم القومي.

على «حماس» الآن أن تتمثل المعاني الجوهرية لما حدث في أريحا. وهذا التمثل يرتب عليها أن تختار أمرا من أمرين: الأول هو أن تؤلف الحكومة الفلسطينية بحسب برنامج سياسي يقوم على اللاءات الآتية: لا للاعتراف بإسرائيل، لا للالتزام بكل ما وقِّع من اتفاقات بين الفلسطينيين وإسرائيل، لا لإعلان نبذها لما يسمى العنف والإرهاب، لا للتخلي عن سلاحها.

أما الأمر الثاني، فهو أن تعلن اعتذارها إلى الفلسطينيين عن تأليفها الحكومة، وأن تشرح لهم أن تلبيتها لبعض، أو لكل، شروط تأليف الحكومة لن تفضي إلا إلى أن تغلق «حماس» بيديها باب المقاومة، من غير أن يترتب على ذلك فتح باب المفاوضات ولو جزئيا. وفي المقابل على «فتح» أن تعقد مؤتمرها السادس سريعا، وأن تخرج، بالتالي من أزماتها الداخلية، مؤسسة لبنية تنظيمية وسياسية وقيادية جديدة، تسمح له بأن تكون على مستوى التحدي التاريخي الذي يواجهه الشعب الفلسطيني وقضيته القومية.

وبعد ذلك، تجتمع «فتح» و«حماس» وسائر المنظمات والقوى الفلسطينية للاتفاق على إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية من كل النواحي، وبصفة كونها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وبعد ذلك، تقرر المنظمة حل السلطة الفلسطينية، وإلغاء كل ما وقِّع من اتفاقات مع إسرائيل، والتراجع عن اعترافها بحق إسرائيل في العيش في أمن وسلام، وضمن حدود آمنة ومعترف بها؛ لأن هذا الاعتراف لا أهمية ولا قيمة له إذا لم يقترن باعتراف إسرائيل بالشعب الفلسطيني وبحقوقه القومية المعترف بها دوليا، فالاعترافان إما أن يعيشا معا وإما أن يموتا معا. هل يخسر الفلسطينيون شيئا إن هم فعلوا ذلك؟ كلا، لن يخسروا سوى أوهامهم وقيودهم، فليكن لإسرائيل أحاديتها، وليكن للفلسطينيين أحاديتهم .!

* كاتب فلسطيني