الخصخصة: الأولوية والتناقض

TT

يتابع رجال الاقتصاد في العالم العربي وبعض المراقبين الدوليين تجربة الخصخصة في العالم العربي التي بدأت تطرح بجدية خلال عقد التسعينات. والآن بعد مضي فترة جيدة من الذبذبات من الممكن مراجعة ما تم بدقة وموضوعية. وبكشف سريع نجد أن الدول العربية تتعامل مع موضوع الخصخصة بحيرة وحساسية بالغتين. فبينما يطغى على الخطاب الاعلامي الرسمي تصريح واضح بالاتجاه وبقوة نحو الخصخصة، فإن تيارات مختلفة داخل أجهزة السلطات في أروقة صناعة القرار تقوض أي محاولة لتفعيل الخصخصة، وتدور الشكوك حول الخصخصة (في نظر الرافضين) على انها محاولة لإضعاف هيئة الدولة وكيانها وانها مشاركة في الحكم وانها استعمار اقتصادي وانها تدخل في أمور عليا وانها وانها...

وهذه طبعاً وجهة نظر منقوصة ومردود عليها. ففي دراسة مستقلة في أوائل التسعينات، نشرت في عام 1995 قامت الدراسة بتحليل لـ 12 منشأة مخصصة في أربع دول هي: تشيلي وبريطانيا وماليزيا والمكسيك. كانت طبيعة المنشآت في مجالات مختلفة: الاتصالات وشركات الطيران والكهرباء ووجدت الدراسة أن 11 من أصل 12 منشأة تم تطويرها وتحسين الأداء بها وتحقيق الربح أيضاً، وأيضاً بقياس صريح وجدت الدراسة أن لهذا التطور أثراً مباشراً و«ملحوظاً» على الاقتصاد العام لكل بلد. بمعنى آخر أن خصخصة المنشأة لم تحسن المنشأة المعينة فقط، ولكن كان لها أثر كبير على الاقتصاد الكلي.

واليوم يجري طرح أكثر من تصور للخصخصة في العالم العربي الا أن آلية التنفيذ والنتائج للآن تبقى دون الطموح فبينما قامت دول بتعيين وزارات معينة بالخصخصة كـ (مصر والمغرب) قامت دول أخرى بالتوجه عن طريق رئاسة الوزراء مباشرة: كالأردن ولبنان، ودول أخرى بقي الطرح فيها غامضاً بالرغم من الخطاب الاعلامي الصريح بذلك، وهناك العديد من المحظورات التي لا تزال تسيطر على ذهنية الحكومات العربية كبيع شركات الطيران والسكة الحديدية والصناعات الكبرى كالحديد والغزل والاعلام.

وتتفاوت تجارب النجاح في سياسة الخصخصة بين دول وأخرى، فبينما أقدمت كل من المغرب وتونس لفترة على هذا النهج بنهم كان من نتاجه أن قامت تونس في 1995 بخصخصة 15% من شركة طيرانها الوطنية كسابقة تاريخية في هذا المجال بالمنطقة. وتبعتها مصر بخطوات جادة للخصخصة في عام 1996 وقامت عمان بخطوات جريئة في قطاع الكهرباء. الا أن الهدوء الكبير عاد إلى الخصخصة العربية وخرجت تصريحات متناقضة تهز الثقة في فكر الخصخصة ككل. ففي لبنان ومصر صرح رسمياً بأن الرخصة التالية للهاتف المتنقل (في كلا البلدين) سوف تكون من نصيب الدولة، وفي السعودية لم يتم تحويل شركة الاتصالات إلى كيان «خاص» فعلا، بل زاد على ذلك أنها دخلت في تنافس مع مقدمي خدمات الإنترنت بشركة جديدة قامت بها.

وتتردد حكومات المغرب ومصر والاردن في بيع مصانع التبغ، مع العلم أن صناعة التبغ في العالم كله متدنية بسبب الضغوطات الصحية العالمية، وبالتالي أي سعر سوف تحصل عليه الحكومات العربية اليوم سوف يكون أفضل من الغد.

لا بد أن تراعي الحكومات العربية أن تناقض الرسائل الاقتصادية التي تبعث عبر سياساتها وتصاريحها تضرها ولا تنفعها. وإذا كانت الخصخصة تدعو إلى قيام دور أكبر للقطاع الخاص في النشاط الاقتصادي فإن الشرط الرئيسي لنجاح القطاع الخاص في هذه المهمة هو ضرورة توفير المشروعية لهذا الدور. ولكن لا يكفي أن يتوافر هذا القبول النظري لفكرة عودة دور القطاع الخاص، وإنما يجب أن تتم عمليات الخصخصة من الناحية العملية بأسلوب عادل وسليم. وبعبارة أخرى فإن الاعتراف بكفاية القطاع الخاص في الإدارة الاقتصادية ليس بديلاً عن ضرورة تحقيق مشروعية مساهمة القطاع الخاص وسلامة شرائه لأموال القطاع العام.

الخصخصة ليست مجرد مبدأ نظري أو قضية مبدئية، ولكنها أيضاً اجراءات عملية وتنفيذية، ويجب أن يتوفر لهذه الاجراءات اكبر قدر من الضمانات. فلا شيء يمكن أن يهدد الاصلاح الاقتصادي ودور القطاع الخاص في المستقبل مثل الفشل في اتمام هذه العمليات على نحو سليم يؤكد سلامة التقييم، وإفساح المجال والفرص أمام الجميع من دون تمييز أو محاولة لخلق احتكارات جديدة أو تركيز للثروات في أيام معدودة. والعمل بغير ذلك هو نوع من وضع قنبلة موقوتة قد تنفجر في المستقبل البعيد أو القريب.

الخصخصة مطلوبة لمزيد من الكفاية الاقتصادية، ولكن نجاحها يرتبط بمدى تحقيق مشروعيتها في ضمير المجتمع، ولا يتحقق ذلك الا بالثقة في سلامة وعدالة اجراءات نقل ملكية القطاع العام إلى القطاع الخاص. وسوف يكون من العبث الاستخلاص مما تقدم أن توسيع قاعدة الملكية أمر لا قيمة له أو أنه لا يستحق العمل من أجله. فالحقيقة أن توسيع قاعدة الملكية فيه ميزات اقتصادية واجتماعية مهمة. فهي وسيلة لتكوين طبقة متوسطة من الملاك، وهي الشرط الأساسي لقيام سوق مالية فعالة الوضوح. ومن المسائل الحساسة في قضية الخصخصة ما يتاح للمواطنين وما يتاح للأجانب. وهي مسألة تثير حساسية خاصة وينبغي التوفيق فيها بين اعتبارات متعددة، فهناك الحاجة إلى تشجيع المواطنين على الاستثمار في أصول بلدهم، وهناك ضرورة الحرص على وجود هذه الأصول في أيدي أبناء الوطن.

ومع ذلك هناك قضايا تكنولوجية وتسويقية قد تفيد كثيراً من وجود مستثمر أجنبي يملك قدرات تكنولوجية تساعد على استمرار التطوير والمنافسة العالمية، أو قد يتمتع بامكانات تسويقية تساعد على فتح الأبواب أمام المنتج العربي. كل هذا فضلاً عن أهمية الإضافة إلى المدخرات الوطنية باستثمارات أجنبية تساعد على زيادة معدل نمو الاقتصاد القومي، وبالتالي زيادة الرفاهية العامة للشعب.

وهكذا لا يمكن التعميم ولا بد من فتح باب المنافسة وتحديد ضوابط وحدود الاستثمار الوطني والأجنبي في صدد بيع بعض أصول القطاع العام. ومن المسائل الدقيقة مسألة التقويم والتوقيت، وبالنسبة للتقويم فلا يمكن أن ينجح برنامج الخصخصة ما لم تبع الأصول والمشروعات بثمنها الاقتصادي، وأي تهاون سيؤدي إلى تولد الشعور بالظلم لتوزيع المزايا والهدايا على الأنصار والمحاسيب، وهو ما يمثل أخطر قضية تهدد مستقبل القطاع الخاص العربي. ولذلك ينبغي الحرص في إعداد التقويم بما يوفر القناعة العامة بأنه يعكس القيمة الاقتصادية الحقيقية. ومع ذلك ينبغي أن يراعي أن القيمة الاقتصادية لا تتوقف فقط على ما يدفع من ثمن عند البيع، بل ترتبط بما يمكن أن يقدم في المستقبل من إمكانات بالاستثمار للتطوير أو للتسويق أو تشغيل عمالة جديدة، وبحيث تظهر هذه الأمور كالتزامات على عاتق المشتري لصالح المجتمع.

أما بالنسبة للتوقيت فينبغي أن تراعى قدرة الاقتصاد على تقبل عمليات الخصخصة من دون مجاوزة لقدرة السوق المالية أو امكانات المدخرين والمستثمرين وإتاحة الفرصة كاملة للمستثمرين المحتملين للدراسة والحصول على البيانات والمعلومات الكافية. وهنا أيضاً ينبغي التأكيد على أهمية إتاحة المعلومات المناسبة والكافية للأفراد حتى يمكن أن يتخذوا القرارات المناسبة، بالاضافة الى أمور مهمة في إجراءات التنفيذ في برنامج الخصخصة، وهي تحتاج إلى مناقشة عامة توفر القناعة بأن ما يتم هو أفضل ما هو ممكن لصالح البلد وبغير مفاجآت للعامة أو للخاصة بقرارات لا يعرف أسبابها. وما دام الأمر يتطلب تجاوباً مستمراً بين الحكومة والرأي العام في هذا الميدان الحساس، فإن بناء الجسور للحوار والمناقشة يعتبر أمراً جوهرياً.

الخصخصة قاعدة أساسية في اعادة الهيكلة والاصلاح الاقتصادي الجاد فيها يتم الحصول على تدفق مالي يسد عجز الميزانيات العامة ويتم تطوير أداء البورصات العربية الهشة وتوسيع حجم السوق المحلي المتواضع وتفريغ الدولة لإدارة قطاعات السيادة والخروج من القطاعات الاقتصادية.

ان الحكومات العربية مؤتمنة على أصولنا الاقتصادية، لكنها مؤتمنة أيضاً على حاضرنا ومستقبلنا، وأي توجه مالي مناسب يحرر تركات اقتصادية بالية بثمن ممكن توجه إلى قطاعات تعليمية وصحية وتنموية هو انجاز حقيقي ينبغي الفخر به وأما غير ذلك فهو اضاعة للفرص وهو ما نجحنا فيه بتفوق عبر السنين.