الحرب أولها الكلام.. وأجواء لبنان تشبه بداية السبعينات

TT

الانقسام اللبناني هذه الايام حول الوجود السوري في لبنان، يشبه ذلك الانقسام حول الوجود الفلسطيني المسلح عشية اندلاع الحرب الاهلية التي بدأت في بدايات عقد السبعينات من القرن الماضي واستمرت زهاء عقد ونصف. فالموارنة، بكنيستهم ومعظم رموزهم السياسية والدينية، كانوا آنذاك في الجهة المناهضة للفلسطينيين، بينما باقي الطوائف والاحزاب السياسية في الجهة الاخرى. وهذا ما يتكرر الان بالنسبة الى الوجود السوري في لبنان، وكأن التاريخ توقف عند لحظة معينة.

بالطبع فان التعميم وفي الحالتين غير جائز. فكما ان ليس كل الموارنة الان ضد الوجود السوري بكل اشكاله وصوره، فان العودة الى عشية اندلاع الحرب الاهلية اللبنانية تظهر ان كثيرين من ابناء هذه الطائفة كانوا مع المقاومة الفلسطينية وقاتلوا في صفوف الحركة الوطنية اللبنانية، والاسماء في هذا المجال اكثر من ان تحصى والشواهد كثيرة ولا حصر لها.

واذا كان هناك من خرج على معادلة رفض الوجود الفلسطيني المسلح بالنسبة لمعادلة رفض الوجود السوري فهو وليد جنبلاط، فوالده الذي كان يقود الحركة الوطنية اللبنانية قبل اغتياله في ربيع عام 1976 كان زعيم التيار اللبناني الذي تمسك بالفلسطينيين ووجودهم وسلاحهم، هذا مع انه كان الاشد رفضا لتدخل السوريين في الازمة اللبنانية انطلاقا من قناعته بأن هذا التدخل سيكون على حساب المقاومة الفلسطينية وحلفائها اليساريين والقوميين اللبنانيين وعلى حساب زعامته الشخصية.

انها نفس المقدمات، فالتصريحات والبيانات والفتاوى الدينية التي تصدر الان مطالبة باعادة انتشار القوات السورية على الاراضي اللبنانية كخطوة اولى لخروجها من كل لبنان هي ذات التصريحات والبيانات والفتاوى الدينية، مع استثناء وليد جنبلاط وحزبه، التي طالبت في مطلع عقد السبعينات من القرن الماضي بنزع السلاح الفلسطيني واخراج منظمة التحرير من الاراضي اللبنانية «لان وجودها يعرض لبنان للاخطار علاوة على انه يخل بالتركيبة السكانية على اسس طائفية».

ان الحرب اولها الكلام، فحملة التصريحات والبيانات التي استهدفت الفلسطينيين ووجودهم الطاغي النفوذ في لبنان بدءا بالعام 1969، تبعتها حملات للتعبئة العامة باشرها حزب الكتائب وشملت لاحقا كل القوى الموجودة على ارض لبنان، المارونية واليمينية واليسارية والقومية، كما تبعتها خطوة فتح معسكرات التدريب وظهور الميليشيات وبدء المناوشات التي انتهت بحادثة عين الرمانة الشهيرة (ابريل/نيسان 1975) التي تعتبر المنعطف الاول في تاريخ الحرب الاهلية اللبنانية.

في ذلك الوقت كان لبنان يشبه مرجلا فوق نار ملتهبة، وكانت القوى الاقليمية والدولية تؤجج الاوضاع وتزيدها اضطرابا وسخونة انتظارا للحظة المناسبة حيث اصبحت الساحة اللبنانية ميدانا لتصفية حسابات كانت مؤجلة، ووصل الدمار الى كل بيت وتنقلت الحرب من مكان الى مكان اخر، من الشمال الى الجنوب ومن الساحل الى الجبل ومن بيروت الى زحلة وجرود الهرمل والشوف وعينطورة وبعبدا وعاليه وسهل البقاع.

عندما بات واضحا ان الحرب الاهلية قادمة بخطى حثيثة بدأت كل القوى الداخلية القديمة والجديدة والطائفية والعلمانية تبحث عن تحالفات خارجية. وكان الوضع الدولي، حيث كانت الحرب الباردة لا تزال في ذروة عنفوانها، مهيئا لتحويل الساحة اللبنانية الى ساحة تصفية حسابات وحروب ثأرية. وكان الوضع الاقليمي مثقلا باحتقانات تفجرت كلها في لبنان دفعة واحدة.

ولذلك فانه لم يكن مستغربا ان تدخل لبنان وتتدخل في شؤونه وفي فترات مختلفة قوات عربية غير القوات السورية وقوات اميركية وفرنسية وقوات متعددة الجنسيات، في الجنوب، بعد العدوان الاسرائيلي في عام 1978 وبالطبع الجيوش الاسرائيلية التي اجتاحت الاراضي اللبنانية في يونيو (حزيران) عام 1982 وبقيت ترابط في الشريط الجنوبي الحدودي الى ان اضطرت للانسحاب تحت ضربات حزب الله.

فتح اللبنانيون ابواب وطنهم، لظروف واسباب في مقدمتها تناحر الطوائف والاستقطابات الداخلية، لكل القوى الاقليمية والدولية وتحول لبنان الى ما يشبه سفينة نوح. فقد اصبح قاعدة لكل ما يسمى حركات التحرر في العالم من الجيش الاحمر الياباني الى جيش التحرير الارمني الى حزب العمال الكردستاني التركي، الى منظمة «فارابوندومارتي» الى جماعة بادرماينهوف الالمانية الى المعارضة الصومالية وكارلوس وعثمان صالح سبي وعبد الله اوجلان وكل ما هب ودب في هذا العالم الذي كان اكثر اضطرابا في ذلك الزمن زمن الحرب الباردة وصراع المعسكرات.

كانت اي منظمة تريد معارضة نظام بلادها تأتي الى لبنان، من السان سالفادور في الغرب وحتى اليابان في الشرق وكان اي نظام يريد اغتيال رموز وقادة معارضيه يأتي الى لبنان. فأصبحت كل حارة من حارات بيروت دولة صغيرة تحكم وترسم لها سجونها وجلادوها وجلاوزتها ولها اقبيتها وسلاطينها، وغدا الشعب اللبناني حقولا لتجارب «ثورية»!! فذاق الامرّين وتعرض لشتى انواع البطش والاهانات والاعتداء على الكرامات.

هذه هي نتائج اختلاف اللبنانيين، في نهايات عقد الستينات وبداية عقد السبعينات من القرن الماضي، وهذه هي الصورة المأساوية لبلد اختلف اهله على قضية واحدة فتحول اختلافهم الى خلافات وحروب قبلية وتصفيات، والى دماء وحرائق ومآس تنقلت حتى شملت كل مدينة وكل قرية وكل شارع وكل منزل.

والان إذ يرفع شيطان الخلاف والاختلاف رأسه فان الفتنة ترفع رأسها معه، ولذا على اللبنانيين، الموارنة والسنة والشيعة والارثوذكس والكاثوليك والدروز والارمن والاكراد والتقدميين والرجعيين والقوميين والاقليميين وحركة «امل» وحزب الله والحزب التقدمي الاشتراكي والقومي السوري الاجتماعي والشيوعي والكتائب والاحرار والكتلة الوطنية وبكركي والمجلس الشيعي الاعلى ودار الفتوى السنية وشيوخ البياضة، ان يتذكروا ان هناك قوى اقليمية ودولية تسعى لان يصبح لبنان مرة اخرى ميدانا لتصفية الحسابات وتسديد الفواتير.

قد يكون منطقيا ان يكون هناك خلاف حول الوجود السوري ـ الذي رغم كل ما قيل فيه وعنه، الا انه اخرج لبنان من حالة التشظي واعاد اليه وحدته المفقودة ـ لكن يجب ان يبقى هذا الخلاف تحت السيطرة وضمن البيت الواحد وبعيدا عن القوى الاقليمية والدولية، كما يجب الابتعاد عن لغة التخوين وعن احتكار الوطنية وعلى اساس ان الوطن وطن الجميع وان المهم ان لا يضطر اي كان تحت وطأة الضغط والاتهامات مد يده الى الخارج.

من حق البطريرك نصر الله صفير ان يعلن ما يحس به بالنسبة للوجود السوري، لكن من دون ان يمد يده الى الخارج. ومن حق الذين يخالفونه وجهة نظره ان يتحدثوا بذلك بصوت مرتفع، لكن بلا اتهامات جارحة ومن دون ان يضطروه الى البحث عن تحالفات خارجية لحماية نفسه وحماية طائفته وحماية كنيسته.

ومن حق وليد جنبلاط ايضا ان يقول وجهة نظره، مثلما ان من حقه على الذين يخالفونه الرأي ان يستمعوا اليه وان يناقشوه بموضوعية وان لا ينسوا انه وحزبه وطائفته كانوا الاكثر حماسة للوجود السوري في لبنان عندما كادت اسرائيل ان تفرض على اللبنانيين معاهدة ظالمة وجائرة تحت الضغط وبقوة الحديد والنار.

مهما قال وليد جنبلاط ومهما تحدث عن الوجود السوري في لبنان من مفردات لا يقبلها عاصم قانصوه وعبد الله الامين وحزب الله وحركة «امل» وعلي عيد في الشمال، فإنه وبالتأكيد لن يخرج عن الدائرة العربية ولن يمد يده الى الخارج ولن يتآمر على سورية ولن يقفز ابدا من فوق حقيقة انه ليس بامكان اللبنانيين الاستغناء عن السوريين ودعمهم وقواتهم بينما ظروف المنطقة هي هذه الظروف الصعبة والدقيقة والخطيرة والحاسمة.

اذا لم يتحلَّ اللبنانيون بفضيلة الحوار المنطقي والاخوي، واذا لم يستوعبوا بعضهم بعضا، واذا المؤيد لبقاء سورية في لبنان لم يستمع بأناة وصبر وطول بال للمعارض لوجودها على هذا النحو، واذا انتقل الحوار من صفحات الصحف وشاشات الفضائيات الى المهرجانات الصاخبة واتخذ هيئة التعبئة العامة والعودة لفتح معسكرات التدريب ومد الايدي الى الخارج، فان كارثة عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي عائدة لا محالة.

وعلى الجميع ان يتذكروا ان اسرائيل لا تزال تقف بالمرصاد ومستعدة للتدخل في اية لحظة لتصفية الحسابات مع سورية ومع حزب الله وحركة «امل» والحزب الشيوعي والتقدمي الاشتراكي، بل وايضا مع الموارنة الذين، بعد ان اكتشفوا الحقائق وبعد ان تحرروا من الاتهامات والضغط الداخلي، اثبتوا انهم ليسوا «انعزاليين»، كما اتُهموا ذات يوم، واثبتوا انهم ليسوا اقل حرصا على لبنان وعمقه العربي من السنة والشيعة والدروز وليسوا اقل التزاما بالقضية الفلسطينية ومساندة لها من باقي الطوائف اللبنانية.

تبدأ الازمات صغيرة ثم تكبر والعقدة التي يمكن حلها بالاصابع افضل من العقدة التي لا يمكن حلها الا بالاسنان، ولعل ما لا خلاف عليه انه كان بالامكان حل عقدة لبنان، في بداية عقد السبعينات من القرن الماضي، بالاصابع لو ان العقلاء لم يضعوا زمام الامور في ايدي الشبان المتطرفين ولو انهم لم يمدوا ايديهم الى الخارج ويشرعوا ابواب وطنهم لكل القوى الاقليمية والدولية.

لو عدنا الان وقرأنا ما جرى في بدايات عقد السبعينات من القرن الماضي بعين محايدة وبدون تزمت ولا انحيازات لوجدنا ان المقاومة الفلسطينية وقعت في خطأ قاتل، وان الموارنة اخطأوا ايضا وان الحركة الوطنية اخطأت ايضا وانه ما كان يجب ان تنجر الطوائف والاحزاب اللبنانية كلها الى المؤامرة، بل انه كان عليها ان تعالج الامور بطريقة غير الطريقة التي القت بلبنان جسدا جريحا على رصيف اللعبة الدولية، كل جرب فيه مبضعه وسكينه.

بدل هذه الحروب الكلامية وحملات التخوين، التي يجب ان تذكر اللبنانيين بما جرى عشية وبعد حادثة عين الرمانة الشهيرة التي فتحت ابواب الحرب الاهلية، هناك امكانية لحوار هادئ يغلب الحسابات الوطنية على الحسابات الطائفية والشخصية والحزبية، وهناك امكانية للاتفاق مع دمشق على الكثير من الامور العالقة التي طالب بطريرك الموارنة، مثلما طالب آخرون، بمعالجتها حتى لا تبقى عامل تشويش على العلاقات بين البلدين.

ان سورية الان، وهي تواجه استحقاقات كثيرة على صعيد عملية السلام والوضع المتأزم في الشرق الاوسط وعلى صعيد الوضع الاقتصادي وخطة الاصلاح التي باشر تنفيذها الرئيس بشار الاسد، بحاجة الى استقرار لبنان وهدوئه، ولذلك فان الذين يحسبون انفسهم على دمشق مطلوب منهم ان يكونوا اكثر مرونة ومطلوب منهم ان لا ينساقوا في حملات التصعيد والمزاودة، وان لا يذهبوا بعيدا في التصريحات الملتهبة واتهام المخالفين بالرأي بالخيانة.

في النهاية، فاننا اذ نستذكر ونتذكر ما جرى للبنان في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي... فاننا نتوصل الى نتيجة انه لا اسوأ من اقحام الطوائف في اللعبة السياسية، وتوظيف المسلمين السنة والشيعة لمواجهة المسيحيين وخاصة الموارنة.