المضحك المبكي في حروب «الجبهات» السورية

TT

كنت أعتزم الحديث هذا الأسبوع عن اعتراف أميركا الخطير بمصالح إيران في العراق. هذا الاعتراف الذي اعتبره «خيانة» أميركية جديدة للنظام العربي الصديق لها، بعد خيانات سابقة تراوحت بين الانحياز لاسرائيل، الى احتلال العراق ومحو هويته العربية بتسليمه الى قوى طائفية مشايعة لإيران، وصولا الى الضغط الغبي لفرض «الإصلاح الديمقراطي» الذي كان من مصلحة قوى طائفية ودينية في مصر والعراق وفلسطين، بدلا من تشجيع ظهور قوى ديمقراطية حقيقية.

لكن آثرت تأجيل الموضوع، ريثما تتضح احتمالات نجاح الحوار الأميركي ـ الإيراني وغاياته، داعيا سلفا قمة النظام العربي المقررة في 28 مارس الحالي، الى الكف عن أداء أنشودة السلام المملولة، للاستدارة نحو مواجهة الحقائق التي تفرضها المتغيرات المتسارعة: الانتخابات الاسرائيلية. حكومة حماس. تآكل «خطة الطريق» أمام خطط القضم والاستيطان والتجويع. ثم جعل الاعتراف الأميركي الجديد بإيران لاعبا عراقيا وإقليمياً أساسيا، في رأس جدول أعمال القمة، لأنه جاء قبل التشاور مع النظام العربي، وفي تجاهل تام للمصالح العربية.

الحديث عن الهم العراقي الأكبر، لا يلغي الحديث عن الهم السوري الأصغر. في تأجيل الحديث عن قمة الخرطوم، لا بأس في الحديث عن قمة خدام البيانوني في بروكسل. الملاحظ أن العواصم الأوروبية الثانوية، كبروكسل ولاهاي وكوبنهاغن، باتت نوافذ لتعاطي العواصم الغربية الكبرى مع شؤون العرب والمسلمين، تخلصا من احراج التدخل المباشر والسافر.

في كل حديث عن الأزمة السورية، هناك دائماً المضحك. وهناك دائما المبكي. المضحك هو المشهد السوري الحافل بجبهات المعارضة المشتعلة، باستثناء جبهة الجولان. المبكي هو جبهة النظام الذي لا يغير ولا يتغير. من هنا، أود أن لا يؤخذ حديثي هذا على محمل الجد. فهو «كوكتيل» من المضحك المبكي. مع الاعتذار لصديقي وجاري في باريس سمير كحالة الوارث عن أبيه أمجاد مجلة «المضحك المبكي» التي أغلقها النظام قبل 43 سنة، لسبب بسيط هو أنه لا يرى في سورية ما يفرح ويضحك.

أتأمل في الصورة الضاحكة. ما الذي جمع «العلماني» على الأصولي؟ أهو العمر؟ إذا كانت فورة خريف العمر، فما أحوج المعارضة الى جيل جديد من القيادات الشابة.

أهي التجربة؟ لا نقد للتجربة البائسة! خدام (75 سنة) مل الدفاع عن النظام 42 سنة. وبيانوني (70 سنة) لا يراجع تجربة أصولية أودت أخطاؤها بحياة عشرات ألوف السوريين.

في حلف سيريالي، كل يجد للآخر ذريعة للتبرئة. خدام يعتبر الاخوان مطية العودة. البيانوني يخالف فتوى إخوان الأردن (المنفتحين على بشار) بتحريم التعاون مع خدام، لأنه تجاوز خط المعارضة الأحمر، ولأن لا قاعدة شعبية له بين السوريين.

«جبهة خلاص وطني» من نظام بشار تبشر السوريين بالتغيير، من خلال «الريموت كونترول» من بروكسل، حسب تعبير مدير التلفزيون الذي عهد إليه النظام بإعلان الحرب على جبهة الخلاص. وثيقة بروكسل تنادي بتغيير سلمي. لكن خدام ما زال يرى التغيير في «اسقاط نظام لا أمل في اصلاحه»، فيما يفتي البيانوني بإمكانية تمرير النظام الى الجنة، اذا ما صالح الاخوان ومرر الإخوان المنفيين الى سورية.

عن معارضة بروكسل، غابت المعارضة في الداخل. السبب حياء وخوف من جبهة النظام المشتعلة، ثم الشبهة في «ديمقراطية» الاخوان، واخيرا الشك في «الديكور» الأميركي في بروكسل الذي وفره حضور طبيب الأسنان حسام الديري حامل أختام البنتاغون وبصمة الدلوعة ليز تشيني مسؤولة المعارضة السورية في وزارة كوندوليزا. وغابت مع معارضة الداخل «عروبة سورية»، لكي يتمكن أكراد سورية في أوروبا من «تشريف» جبهة الخلاص بالحضور.

بالمقارنة مع عبد الله الأحمر، يبدو خدام أذكى رجال النظام الذي غادروه. لكن خدام بات يحمل كثيرا من الحقد الشخصي ليس على النظام فحسب، وانما على بشار بالذات والعائلة الحاكمة. فهو كف عن اتهام اسرائيل بقتل صديقه الحريري، وعاد ليتهم رأس النظام، وليصعد حملته الكلامية عليه. فهو يتوقع «تمردا رومانيا» ينتهي بنهاية تشاوشيسكو، وربما غداً نهاية كنهاية ميلوزوفيتش في محكمة دولية.

خدام يذكرني بمعارض ليبي اسمه الدكتور محمد المقريف. فقد كدت أصدقه وهو يقسم بالأيمان المقدسة أمامي في الرباط عام 1981، بأن نظام القذافي سيسقط خلال أسابيع. خدام أكثر واقعية من المقريف. فهو يعطي النظام مهلة أشهر.

سبب حقد خدام الشخصي على بشار هو خيبة أمله بعد تنصيبه له رئيسا وريثا لأبيه. كان يريد أن يحتفظ به بشار مستشارا يعرف ويعلم ويستشار، وليس فقط نائبا لرئيس لا يقبل النصيحة والمشورة. الواقع ان خدام تعرض لتهميش طويل حتى منذ عهد الرئيس الأب حافظ. صمت خدام لاحترامه الأب. تمرد وثار عندما أصبح عمليا خارج دائرة المشورة والمشاركة والقرار في عصر الابن. ثم حقد عندما تحول بعد خروجه بـ 24 ساعة فقط الى «خائن وعميل وفاسد» في قاموس نظام يعتبر كل من ليس معه فهو ضده!

أعتقد أن حقد خدام كحقد جنبلاط. خلاف جنبلاط مع بشار وضعه في «خانة» خدام. كنت أظن جيل بشار غير جيل أبيه. لكن أسلوب هذا الابن ما زال من أسلوب ذلك الأب؟: مهانة كبيرة لمشايخ دروز سورية «استنطاقهم» ضد زعامة جنبلاط الدرزية. وإهانة كبيرة لخدام قول النظام فيه علنا ما يتناقله عنه السوريون سرا. كم فرقه تملك جبهة البيانوني وخدام؟!

سؤال ستاليني لا شك أن النظام يطرحه، من خلال استخفافه بمعارضة «الريموت كونترول» في بروكسل. خدام يذكرني بالمقريف عندما يقول ان له «رجالا» في الجيش و«زلما» في الحزب. كنت بريئا. أخطأت وكدت أصدق المقريف. لا أريد أن أرتكب الخطأ مرة أخرى.

أدخل الآن في الكلام الجد. أنتقل من المعارضة الضاحكة المضحكة الى النظام المبكي، لأقول أتمنى أن يدرك نظام بشار أنه يدخل ليس في حروب مع جبهات المعارضة فحسب، وإنما ايضاً في سباق مع الوقت. خمس سنوات بركات (كفاية على حد تعبير أشقائنا الجزائريين). لا بد من الاعتراف بشيء ما عن ملابسات اغتيال الحريري، أمام اللبنانيين والعرب والعالم. تقرير المحقق براميرتز يوحي بأن النظام ربما مستعد للتضحية ببعض حراسه، من الأمنيين الصغار، انقاذاً لسمعته واستعادة للثقة به.

مع الاعتراف بشيء من الحقيقة في قضية الحريري، لا بد من المبادرة الى اصلاح سياسي، ولو كان تدريجيا: وضع حد للحروب بين جبهات المعارضة وجبهة الحكومة والحزب، واستبدالها بحوار ومصالحة. تحرير الإعلام. إنجاز قانون الانتخاب. الغاء الاحكام العرفية والقوانين والمحاكم الاستثنائية. الإفراج عن المعتقلين.

لا شك أن بشار يتمتع بشعبية نسبية لدى السوريين والفلسطينيين وبعض اللبنانيين. لكن شعبية السياسي كالكثبان الرملية. هي غالبا ما يذروها هبوب الرياح وتقلب العواصف.