هذه المرة .. عن المهنة!

TT

الايام الماضية، كان الحدث الذي استولى على اهتمامي، او لنقل الفصل الاكثر تشويقا، هو متغيرات وطوارئ مهنة البحث عن المتاعب، اعني مهنة الصحافة التي يقولون عنها «صاحبة الجلالة». وحديثي في هذه المساحة، بعد مروري على هذه المحطات سريعا، سيكون حديثا بعيدا عن السياسية، وقريبا من النفس وهموم المهنة.

في الكويت تم إقرار قانون المطبوعات الجديد من قبل مجلس الامة، واحتفل الصحافيون بذلك. فالقانون الجديد كما يصفه احد المتابعين الكويتيين للزميل أحمد عيسى يساهم في: «توسيع قاعدة النشر، ويكف يد الحكومة عن الصحف بدون حكم قضائي».

كما شهد الاسبوع أيضا إطلاق جمعية اصدقاء الصحافي المصري الشهير احمد بهاء الدين (ت 1986) لاسطوانة مدمجة تضم الكتابات الكاملة للكاتب الراحل وكتبه ومقالاته خلال نصف قرن، كما أنشأت موقعاً على الإنترنت يضم أعماله وسيرته وصوره الخاصة.

وكتبت عنه الصحافية المصرية سناء البيسي مقالا مؤثرا في صحيفة «الاهرام» 18 مارس الحالي بعنوان «استاذ بهاء»، ومما تحدثت به عن تجربتها في العمل مع بهاء اثناء رئاسته لتحرير «اخبار اليوم»، وهو كله حديث ممتع وكاشف عن جوانب من سيرة هذا الصحافي الخجول، والعنيد في نفس الآن، لكن الاكثر اثارة كان حديثها عن طبيعة علاقة بهاء المعقدة مع ضباط الثورة التي كان يشعر انه ليس واجبا عليه ان يصبح «بوقا» لها، ولكنه ليس عدوا لها في نفس الوقت، بل منتم لها، يحلم بما تحلم به من عدالة وكرامة ... اي انه ابن الحلم وليس بوقه.

هذه العلاقة كانت ملتبسة لدرجة ان عبد الناصر كان يداعب احمد بهاء الدين بالقول:«نفسي اعرف انت مع مين بالضبط» !

اما الصحافة الكويتية، فهي ذات تاريخ في منطقة الخليج يعود إلى عام 1928 عندما أسس المؤرخ عبد العزيز الرشيد مجلة «الكويت»، وكانت المطبوعات الكويتية تحرر داخليا، وتطبع إما في العراق أو مصر، ليعاد تصديرها من هناك ثم يتم تداولها محليا. ومن المفارقات ان المؤرخ والكاتب الاصلاحي عبد العزيز الرشيد، صاحب رشيد رضا، عانى كثيرا من ريادته الصحفية، وثار عليه الشيخ «العلجي»، احد أشداء الشيوخ، بسبب صلاته بشيوخ الاصلاح الديني وبسبب مجلاته الفكرية، فهرب الى البحرين منذ حوالي قرن، ليعود حفيده الوزير انس الرشيد هذه الأيام بقانون المطبوعات الجديد الذي اضاف رئة اخرى للصحافة الكويتية كي تتنفس، وما أحلى ذكرى الاجداد اذا كانت انتقاما بالمزيد من الحياة! حديثنا الآن ليس عن هروب «المفكر» عبد العزيز الرشيد وجراحه، بل عن آلام الكاتب، من خلال الحديث عن شيء من تجربة شخصية، وعن نوع خاص من الالم، وهو ألم الجحود والتأطير والتصنيف.

أي كاتب «مهموم» ومتورط بوجع الكتابة الجميل، حتى آخر شهقة في صدره، قبل أن يضع الكلمة الاولى في بناء المقال، وقبل أن يقرر «الحكي» في أي شأن، ترمقه ثلاث عيون: عين سياسية، وعين دينية، وعين اجتماعية. وكلما التفت الى احداهن صار ذلك على حساب العين الاخرى... حتى يقرر شيئا من أمرين: إما إرضاء إحداهن، او تجاهلها كلها، ولا يستطيع ذلك، ولا يبقى له إلا ما قاله الشافعي لتلميذه «رضا الناس غاية لا تدرك».

هذه الوساوس تفترش نفس أي كاتب قرر البدء بكتابة مقال. الكاتب الذي يعتقد ان الكتابة جزء منه، وليس من يكتب من باب «تلقيط الرزق»، جاهزا للانطلاق كلما رأى الرياح متجهة صوب الكلأ والماء... ماذا يفعل الكاتب إذن؟! هل يخصص نفسه لمن يرغبّه أكثر، او من يخيفه اكثر؟! او يقرر ان يصبح «شهيدا حيا» ويحمل خشبته فوق كتفه منتظرا من يصلبه عليها ؟!

كلا الخيارين مؤذيان، الاول للنفس، والثاني للجسد، والنفس ايضا.. فلا يوجد من يبتهج بالالم حتى ولو زعم سادتنا الصوفية ذلك، إلا من باب «المازوخية» الروحية !

الحق ان الكاتب، والمثقف بشكل عام، يهمه بالدرجة الأولى تجسيد رؤيته على ارض الواقع، وتحقيق أفكاره في حياة معاشة، يهمه محاربة ما يعتقد أنه «مضر» من الافكار والعادات والاوضاع، وعليه فهو ليس مهموما بصيحات البطولة الجوفاء، ولا إطراءات البعض المخنوقة في جلسات سمر، فهذه الاطراءات تخدع في اللحظة الاولى، ولكنك تنصرف منها وليس في يدك إلا قبض الريح، وليس في فمك إلا عصير الوهم ... ثم لا شيء : هم يمضون الى حال سبيلهم، ويرجعون الى الحياة التي اوسعوها شتما ليلة البارحة، واوسعوك مديحا على محاربتك لفسادها، ولكن انت تعود الى «الحرب»، إذا جاريناهم في التسمية، وحدك لا معين ولا ظهير معك، ولا حتى «هتيفة» تطلق صيحات التشجيع في النهار وليس في الليل، لأن كلام الليل يمحوه النهار!

خمرة المديح ، تلعب بذوي الرؤوس الخفيفة!

أما من يريد ان يبقى، وفي نفس الوقت يؤثر، فليس له إلا ان يستذكر المبدأ النبوي «سددوا وقاربوا». ويظل يحاول التغيير من خلال رأيه، ونيته الصافية، وبعدها انتمائه القاطع الى ارضه واهله ومجتمعه، ويتكلم يما يسمح به الهامش، محاولا رفع مستوى الهامش حتى يصبح هو المتن... وهذه «حدوتة» الصحافة والرقيب في كل وقت ومكان، وليس في بلد بعينه.

الكاتب او الصحافي الحقيقي ليس مشغولا بأن يكون بطلا، ولا مشروع بطل. وأتحدث هنا عن تجربة شخصية، فأسلم شيء ان يمثل الواحد بنفسه، وهو ونفسه «يصطفلان». فبعض الاحيان تسمع من يقول لك: «لماذا لا تصرح اكثر، من يدفع لك، انت مستغل من قبل البعض، هل أنت مؤمن بما تقول، لماذا لا تتحدث عن كيت وكيت ... الخ». كلمات ربما تسمعها من اشخاص مختلفين او تقرأها هنا وهناك.

ولا تملك إلا القول إنك تتكلم بما تحسن. و«من» الاشياء التي أحسنها وأفهم فيها الحديث عن الاسلام السياسي، تقلباته، وتحولاته، وآثاره، وتحالفاته، وآليات تفكيره الداخلي، وسيكولوجيته العامة المحركة له، وتكتيكه واستراتيجياته، وحلفاؤه المؤقتون والدائمون... واشياء اخرى تطوف في مدارات الاسلام السياسي. وفي تقديري ان من الاشياء المفيدة التي أقدمها للقراء هو الاسهام «المتواضع» في هذا الجانب، كشفا لتغيرات هذا الاتجاه السياسي، وتلمسا لأثره في حياتنا، ورؤية له بشكل حقيقي، بما له وما عليه.

وأعتقد حقا وصدقا أن هناك «استهتارا» من البعض، ساسة او من الجمهور، بهذا الموضوع، موضوع إفقار الاحزاب الاسلامية السياسية لقيمة المسلمين في العالم، وهو موضوع كبير وتاريخه طويل منذ ان أخفق العرب والمسلمون في العبور الى تجديد الاسلام، والتخلي عن اجتهادات التاريخ التي علقت به، حاملة معها بصمات البشر العابرين. هي مشكلة حقيقية، غير مفتعلة، أخفق في حلها علماء ومفكرون عظام، حاولوا ايجاد صيغة متصالحة ومرتاحة من الفكر والفقه الاسلامي، ولكنهم سكتوا تحت صيحات الثائرين والمسيسين، غير أن تلك أيضا قصة اخرى. لكن بعيدا عن هذا الاستهتار الذي قد يكون نابعا عن جهل او عن تجاهل فإن ما يبلسم جراح النفس هو أنك تقول ما تعتقده، وترى أنه هو الأصوب، و«لست عليهم بمسيطر».

المزعج فعلا هو ان تسمع مثل هذه الاسئلة، وانت تتحدث على طريقة : يا غافل لك الله، أي «على نياتك» حسب التعبير الشائع، لكن البعض لا يريد تصديق انك فعلا تعبر عن رأيك، فتجده يقول:«انت مستغل من قبل البعض». حسنا: من هؤلاء «البعض؟! دلوني رحمكم الله»، فيتبرع «البعض»! ويقول لك: العلمانيون يريدون استغلالك من اجل اجندتهم الخاصة!

وآخرون يرون ان هؤلاء البعض هم «الحكومات»، واخرون ربما رآوك أهم مكانة ومنحوك رتبة أكثر هيبة «الامريكان» يستغلونك وامثالك، من اجل مشروع الشرق الاوسط الكبير، ومن اجل مبادرة كلينتون وبرنامج ليز تشيني، وحملة باول ...( ترى هل نسيت شيئا ؟!) .

المشكلة في كل هذه الفرضيات انها نسيت شيئا واحدا! وهو ان الذي يكتب هو انسان يملك عقلا، وهذا العقل صالح للاستخدام الآدمي، وربما يخرج باشياء لا بأس بها، وهو انسان لديه افكاره واشواقه، يضحك ويبكي، ويصبح مرة في بياض غمامة وعلوها، واحيانا يلتصق بالارض الوحلة قلة وذلة، يلعق جراح الخيبة، انسان يقول شيئا يستقطره من رحيق روحه وعقله. وعليه فهو ليس آلة حديث، وماكينة صرف كلامي، يرى البعض ان كلامه مهم وطيب، ويرى آخرون ان كلامه تافه وخبيث، ويقول بعض آخر: من هذا ؟!

هو يدرك الممكن واللا ممكن، وهو يعتقد ان من حقه ان يدعي «حب بلده» لكن دون زعيق ومعلقات مديح، وهو يعتقد انه ينتمي لحضارته وثقافته الاسلامية، ولكن دون «الانحشار» في دكانة هذه المجموعة السياسية او تلك، بل ينتمي الى العاديين، ويتمدد في أودية التجاعيد الظاهرة على وجوه كبار السن في ريف مصر او بادية نجد.. باختصار: لا يقول الا ما يعتقد، ولكنه لا يقول كل ما يعتقده، وكلنا ذاك الرجل.. حتى في ابسط الاشياء ، مثل ان ترى شخصا وتستثقل ظله في جلسة ما، الاكيد انك لن تصارحه بما «تعتقده» فيه، وإلا لوصفت بـ« الوقاحة».

وهكذا، وكما قلت لكم في البداية، هذه ليست كلمات في السياسة، او الاحداث، بل هموم وخطرات بعض من يعلق على هذه الاحداث و«يحكي» في السياسة... خطرات من يعتقد انه يسعى، مثل غيره، لأن يحافظ على قيمة الكلمة، في وسط سوق رائج للأفكار والكلمات.