تونس وخمسينية الاستقلال: المنجز والمؤجل

TT

تتعاطى الشعوب الواعية مع مناسباتها الوطنية، بأسلوب يتوخى رصد المكاسب التي تحققت، وفي نفس الوقت وضع الإصبع على الثغرات وإطلاق العنان للحس النقدي كي يتناول النصف الفارغ من الكأس. ذلك أن الحديث عن النقائص والوعي بضرورة معالجتها، يعكس جدية لدى النخبة السياسية الحاكمة والنخبة المفكرة في الشأن الوطني العام. فالدولة كما الإنسان الفرد، تتحكم فيها علاقة تقوم على نوع من التصالح مع الذات ـ وهو ضروري لسيكولوجية الدولة ـ وعلى الصرامة البناءة إزاء ما لم يشمله الانجاز بعد.

ومن منطلق هذه الرؤية في التعاطي مع المناسبات الوطنية، نود أن نقارب احتفال تونس بالذكرى الخمسين للاستقلال، الذي تم الحصول عليه في 20 مارس 1956 بعد كفاح مرير ضد الاستعمار الفرنسي.

وقد أعدت الدولة التونسية برامج مختلفة للاحتفال بهذه المناسبة الوطنية الهامة. ومن جهتنا نطرح السؤال التالي: بعد خمسين سنة من الاستقلال والسيادة الوطنية، كيف يمكن تحديد المنجز والمؤجل في مختلف مجالات الفعل الاجتماعي؟.

إن الرصيد الذي حققته تونس طيلة خمسة عقود يستحق التوقف، خصوصا أن المكاسب ذات قيمة نوعية، ومكنت المجتمع التونسي من تجاوز عقبات أساسية تحول دون التحديث ودون تحقيق ما كان يسميه الزعيم الراحل بورقيبة، بمعركة الخروج من التخلف. وهي معركة وصفها بـ «الجهاد الأكبر»، الشيء الذي جعل الدولة الوطنية الحديثة الاستقلال آنذاك تمنح الأولوية المطلقة للملف الاجتماعي بالأساس وضبط برنامج ينطوي على مجموعة من الإصلاحات المؤسسة الكبرى.

لذلك ظل الجانب الاجتماعي هو الطاغي طيلة مسيرة خمسة عقود من الاستقلال. وانحسرت معظم المكاسب في مجال المرأة ومجال التعليم، إذ اختصر الحبيب بورقيبة رحلة المعالجة الطويلة بقانون جريء تمثل في إصدار مجلة الأحوال الشخصية التي تعتبر رائدة في العالم العربي والإسلامي، وبواسطتها تمكنت نخبة الاستقلال الحاكمة من إحداث حراك على مستوى الأسرة وبالتالي المجتمع. ومن أجل تحقيق ما يسمى بالترشيد الديمغرافي، تم تحديد برنامج ثوري لتحديد النسل، بلغت فيه الإرادة السياسية حد التعقيم الإجباري بالنسبة لبعض الحالات. كما تم الرهان على ديمقراطية التعليم

ومجانيته وخصص له الجزء الأكبر من ميزانية الدولة. ولقد تمتعت المسألة التربوية بأولوية معتبرة في سلم اهتمامات السياسة التحديثية وهدفت سياسة إصلاح التعليم وإلغاء التعليم الديني الزيتوني إلى العصرنة وإلى ربطه بالتنمية، مع منح العقل مكانته المهمة في الفلسفة التربوية القومية. وبفضل هذه السياسة فإن نسبة الأمية في تونس تعتبر الأقل في العالم العربي.

وكي تعطي الخيارات الخاصة بالأسرة وبالمسألة التربوية أكلها وثمارها، لم تتوان الدولة التونسية عن التخلص من الإرث المخزني والاستعماري من خلال إحداث إصلاحات في مجال القضاء، تمثلت في إلغاء المحاكم الشرعية وتونسة القضاء وتوحيده. من دون أن ننسى أيضا إلغاء نظام الأحباس وتصفية الخاصة منها والمشتركة، قصد تفكيك القاعدة الاقتصادية للهياكل التقليدية. ومن الواضح أن الدولة التونسية طيلة العقود الخمسة قد تعاملت مع تجربة الإصلاح بشكل غير شامل بمعنى أنها فصلت الاجتماعي عن السياسي، لذلك حددت المشروعية السياسية للحكم وفقا للمنطق التالي:

* بورقيبة استمد المشروعية بوصفه رجل الاستقلال والأب الرمزي للتونسيين.

* الرئيس الحالي بن علي استمد مشروعيته من إنقاذه للبلاد، التي كانت مهددة في منتصف الثمانينات بالضياع بسبب تقدّم بورقيبة في الشيخوخة. وعلى إثر انتهاء مرحلة الحكم البورقيبي، واصلت النخبة السياسية الحاكمة الجديدة الاهتمام بالملف الاجتماعي وحافظت على مكاسبه وطورتها ولكنها أيضا أولت المسألة الاقتصادية اهتماما خاصا. فكما هو معروف عاشت تونس تجارب اقتصادية مختلفة، نذكر منها تجربة التعاضد في الستينات والتي فشلت فشلا ذريعا، تأثر به بورقيبة كثيرا، وساهم ذلك الفشل في ظهور المعارضة الإسلامية في تونس وأجبر بورقيبة آنذاك على الانحناء والقبول ظرفيا بها كنوع من المناورة السياسية. في حين بعد التغير السابع من نوفمبر 1987، قام الاقتصاد التونسي بشكل أقوى على خاصية التنوع، أي أنه اقتصاد متنوع لا يرتهن إلى قطاع واحد دون القطاعات الأخرى. وهي خاصية مكنت الدولة من عدم الوقوع في الحرج الاقتصادي في فترات التأثر بالمتغيرات الدولية. بالإضافة إلى اتباع سياسة الانفتاح الاقتصادي ذلك أن تونس أحد الأعضاء في منظمة التجارة العالمية، وهي البلد الأول في جنوب المتوسط الذي وقّع اتفاقية شراكة وتعاون مع الاتحاد الأوروبي وقطع خطوات في مجال الخصخصة.

ولكن الملاحظ للوضع الاقتصادي، يسجل بعض النقاط، لا تخجل الدولة من الاعتراف بها:

* نسبة البطالة في تونس اليوم 13.9% من السكان النشيطين.

* متوسط دخل الفرد حوالي 2900 دولار، في حين أن المقدرة الشرائية للتونسي قرابة 7100 دولار!

والحلول التي أوجدتها الدولة لمعضلة البطالة والمتمثلة في إحداث البنك التونسي للتضامن والصندوق الوطني للتشغيل ونظام القروض الصغرى، ظلت متوسطة الجدوى.

ونعتقد أن التطبيق الكامل للقوانين، بإمكانه أن يحسن الوضع الاقتصادي ويوفر كافة شروط تحقق التنمية المستدامة ويجعله في نمو متواصل (نسبة النمو الاقتصادي في 2005، 4.2% مع العلم أنها في سنة 2004، 6%) .

ويمكن القول إن تطوير المشهد السياسي التونسي، ما زال طلبا رغم الإجراءات التي قامت بها الدولة وطموحات المعارضة.

وطيلة الخمسة عقود، عاشت أحزاب المعارضة والصحافة فترات من الانفراج وأخرى من التراجع (تقول الدولة إنها وفرت عبر التمويل العمومي للأحزاب منحا بعضها يمكن كل حزب من طبع 7200 نسخة من جريدته من دون تكلفة). لذلك نعتقد أن المضي بشكل أقوى في مسيرة الديمقراطية، من المهمّ أن يكون المضمون الجديد لمشروعية الحكم الحالي في تونس، وذلك بتوفير دور أكبر في الواقع السياسي لأحزاب المعارضة وتوفير الاستقلالية اللازمة لوسائل الإعلام.

إن رهان العقود الخمسة الأولى على عقل التونسي ومعدته وصحته، يستوجب في بداية الخمسينية الثانية الرهان أيضا على لسانه والمزيد من الحريات.

وهكذا تمتلئ الكأس ويحلو كثيرا ارتشاف إكسير الحياة منها.

* كاتبة تونسية