من يدعو إلى مؤتمر لنصرة العراق..؟

TT

في ذكرى الغزو برزت خلال الأسابيع الأخيرة ثلاث صور عبثية في المشهد العراقي. أولها أن فكرة «المحاصصة» التي اعتمدها الأميركيون ورعوها منذ اللحظات الأولى للاحتلال أتت أكلها، وجاءت ثمرتها المرة والمسمومة حربا أهلية لم تعد «شبحا» يلوح في الأفق، ولكنها صارت واقعا مسكوتا عليه، صحيح أنه لا يوجد إعلان رسمي بذلك المعنى، ولكن الأخبار اليومية لا تدع مجالا للشك في أن تلكم الحرب النفسية قد بدأت بالفعل على مستويين، مستوى التصفيات المتبادلة بين السنة والشيعة، ومستوى التطهير العرقي الذي يستهدف إجلاء العوائل من المناطق ذات الأغلبية الشيعية والعكس.

لقد اصبح القتل المتبادل الذي صرف أنظار المتعصبين عن الاحتلال مستمرا بصورة منتظمة بمعدلات تتراوح بين 20 و80 قتيلا في اليوم، وفي أحيان كثيرة فإن القتل يكون مسبوقا بتعذيب بشع، يعكس رغبة شريرة في الانتقام. وحرصا على توصيل رسالة الترويع لأسر المقتولين وإخوانهم، والتقارير التي نقلتها وكالات الأنباء في الأسبوع الماضي بوجه أخص، تلك التي فصلت في قصص التصفية والترويع، التي لم ترحم الضعفاء من الصغار والنساء والشيوخ، تبعث على الاشمئزاز وتضاعف من الصدمة، ليس ذلك فحسب وإنما كان مفزعا ومثيرا للدهشة ما تردد عن عمليات سحل ظننا أن صفحتها قد طويت، وحين حدث ذلك في بغداد، ومن جانب عناصر ما سمي بفرق الموت «المحسوبة على وزارة الداخلية» فإن الأمر يبدو خطرا للغاية، ليس فقط لما في تلك الممارسات من وحشية بلغت حد الجنون، ولكن لان المراد بها في نهاية المطاف إخراج السنة من بغداد، لتصبح مدينة شيعية خالصة، مرشحة لان تصبح عاصمة الإقليم «الفيدرالي» الذي دعا إلى إقامته السيد عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وذلك لم يعد سرا، لأن أوساط متعصبي الشيعة تتحدث بصراحة، عن أنه «لم يعد ممكنا أن تجتمع طائفتان في بغداد». ومن أسف أن ذلك الحديث ليس همسا، ولكن بوسع أي متابع لمواقع الإنترنت أن يقرأ كتابات تتطرق إليه بصورة أو أخرى، منها مثلا ما كتبه أحدهم (قاسم العوادي) معبرا عن حفاوته بالهجوم الذي شنته العناصر المتعصبة والمسلحة على أهل السنة في بغداد، في أعقاب تفجير قبة مسجد الإمامين الهادي والعسكري في سامراء، ومعتبرا أن ما حققوه في الانتقام والتصفية «إنجاز» يعكس مدى القدرة التي يتمتع بها الشيعة، الذين صار بوسعهم احتلال بغداد بكاملها خلال أربع ساعات.

ولئن أشرت إلى انها تصفيات متبادلة، إلا أنني لا أستطيع أن أساوي بينهما، حيث يتعذر على أي محلل منصف أن يعادل جنون بعض أهل السنة، المدان من جانب هيئة علماء المسلمين ومن الحزب الإسلامي، بجنون متعصبي الشيعة المؤيدين من قبل بعض المراجع، والذين هم في مواقع السلطة الحساسة، ويهيمنون على جهاز الأمن الذي سخرت بعض إمكانياته في عمليات التصفية خصوصا تلك التي تتم في أوقات حظر التجول، وهي التي لا يسمح لأحد بأن يتحرك خلالها إلا إذا كان منتميا إلى جهاز الأمن أو حاملا لتصاريح خاصة.

لقد ذكرت صحيفة «الجارديان» البريطانية (في 1/3الحالي) أن كتائب الموت التي وصفتها بأنها شيعية وتابعة لوزارة الداخلية، قتلت خلال الأشهر الأخيرة 7 آلاف شخص، بين رجال ونساء، وأن جثث القتلى وجدت مشوهة من أثر التعذيب حيث كانت أيديهم مربوطة خلف الظهر، فيما ثقبت الأطراف بمقداح كهربائي، وشوهت الوجوه وأحيانا كسرت الجمجمة، والبيان الذي نشرته «الشرق الأوسط» نقلا عن وكالة رويترز (في 9/3 الحالي) رصد تصاعد عدد القتلى بين المدنيين العراقيين، خلال السنوات الثلاث على النحو التالي: قتلى فترة الغزو (من 20/3 إلى 30/4 عام 2003 وصل إلى 7312 شخصا، وفي السنة الأولى (من أول شهر مايو 2003 إلى 19 مارس 2004) وصل عدد القتلى إلى6331 شخصا، وفي السنة الثانية (من 20/3/2004 إلى 19/3/2005) زاد عدد القتلى واصبح 113312 شخصا، وفي السنة الثالثة (من 20/3/2005 إلى شهر مارس 2006) وصل عدد القتلى إلى 12617 شخصا، ولأن هذا الإحصاء لم يدخل فيه عدد الذين تم قتلهم بعد تفجير قبة مسجد سامراء فبوسعنا أن نقول بلا مبالغة بأن عدد القتلى حتى نهاية شهر مارس من العام الحالي وصل إلى 13 ألف نسمة على الأقل.

هذه الأرقام تقول بما لا يدع مجالا للشك بأن العراق يتجه صوب الفوضى وليس نحو الاستقرار كما يدعون، وأن الإجراءات التي تم اتخاذها لتأسيس ما سمي بالعراق الجديد ربما تقدمت على صعيد توفير الهياكل الديمقراطية، لكنها استصحبت انتحارا جماعيا للآلاف من أبناء الشعب العراقي، الأمر الذي يضعنا بإزاء مفارقة عبثية يبدو فيها العراق متقدما بشكل حثيث في اتجاهين، أحدهما يتعلق ببناء الهياكل الديمقراطية، والثاني يتمثل في إبادة الشعب العراقي بصورة تدريجية!

رغم أن أكثر من مصدر عراقي مطلع قالوا لي أن الأرقام التي تعلن عن أعداد القتلى عادة ما تكون أقل من الحقيقة حيث تتعمد السلطات ذلك لأسباب مفهومة، فضلا عن أن الأهالي كثيرا ما يتقاعسون عن التبليغ، أقول رغم ذلك فإن الأرقام المعلنة دالة بحد ذاتها على أن الحرب الأهلية صارت حقيقة وليست افتراضا أو احتمالا، ولم يعد السؤال هو ما إذا كانت تلك الحرب حاصلة أم لا، ولكنه صار فقط متعلقا بموعد إعلان تلك الحقيقة المفجعة.

ومن أسف أن الأطراف المختلفة تتحسب لمزيد من التصعيد، ومن ثم تحتشد لمواجهة الاحتمالات الأسوأ وثمة معلومات تسربت بداية هذا الأسبوع عن عبور أعداد كبيرة من عناصر حرس الثورة الإيراني يرتدون زي الحرس الوطني العراقي، ودخولهم إلى محافظة ديالة الشرقية، وهو ما انتبه إليه زعماء العشائر الذين استنفروا شبابهم بدورهم، ودعوهم للاستعداد لمواجهة الاحتمال الأسوأ، المتمثل في إمكانية الاشتباك المسلح مع أولئك الجنود القادمين عبر الحدود.

الصورة العبثية الثانية تمثلت في دعوة السيد عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية إلى حوار أميركي إيراني حول الوضع في العراق، وهي دعوة كاشفة أزاحت الستار عن اللاعبين الحقيقيين على المسرح العراقي ويبدو أنه لم يكن هناك مفر من ذلك بعدما استحكمت أزمة رئاسة الحكومة، حيث المعلن أن ثمة خلافا حادا حول استمرار الدكتور إبراهيم الجعفري في منصبه، بعد الفشل الأمني الذريع الذي حدث في ظل حكومته، وبعدما تحولت أجهزة الأمن إلى ذراع طائفية للتصفية والتهجير. إذ بدا في الظاهر أن الائتلاف العراقي متمسك بترشيح الدكتور الجعفري في حين أن السنة والأكراد يتمسكون بإزاحته . وهذا صحيح إلى حد كبير، لكن الأصح منه أن الإيرانيين يريدون الجعفري بينما الأميركيون والإنجليز يسعون لاستبعاده، لأن وجوده يربك خططهم ويفجر الوضع الداخلي الذي أصبحوا يتطلعون لتهدئته سواء لتأكيد إدعاء الإنجاز أو تمهيدا لسحب القوات والخروج من المأزق.

إذا كان الوكلاء الصغار قد فشلوا في التوصل إلى اتفاق، فلماذا لا نستدعي الإصلاء الكبار لكي يحلوا الإشكال، هذه كانت رسالة دعوة السيد الحكيم، الذي يعرف الجميع أن إيران هي القوة الحقيقية التي تسانده وتموله منذ استضافت ورعت المجلس الأعلى في طهران قبل اكثر من ربع قرن.

العبثي في الدعوة ثلاثة أمور أولها أنها أكدت على أنه إذا كانت الولايات المتحدة هي اللاعب المعلن في العراق، فإن إيران هي اللاعب الخفي. وثانيها أن الإرادة العراقية خارج الساحة وليست طرفا فاعلا في تقرير مصير البلد، وإنما هي في أحسن الأحوال تؤدي دور الوكالة عن غيرها.

أما الأمر الثالث فهو أن العالم العربي لم يعد طرفا في اللعبة، رغم المحاولات التي بذلتها الجامعة العربية لعقد مؤتمر للوفاق بين الفرقاء العراقيين، كان مقررا له أن يعقد دورة ثانية، ولكن أحدا لم يكترث بذلك وهذا التغيب أو التجاهل (الحاصل أيضا في الموضوع الفلسطيني) جاء كاشفا بدوره عن حقيقة الانهيار الذي مني به النظام العربي الذي استصحب غيابا مشهودا للعرب في الساحة الدولية، والتحاقا مفجعا للسياسة العربية بالاستراتيجية الأميركية.

الصورة العبثية الثالثة تتمثل في صمت العالم العربي والإسلامي إزاء الانتحار الجماعي الحاصل في العراق، وكأن ما يجري فيه لا يعني «الأمة» في شيء، تتبدى تلك العبثية في أن الأمة استنفرت من أقصاها إلى أقصاها في تعبير وصل إلى حد الجموح أحيانا احتجاجا وغضبا على الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية، وعقد لذلك الغرض أكثر من مؤتمر لنصره رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك كله افهمه وأراه واجبا حتى وأن تحفظت على بعض ممارساته لكن الذي يدهشني هو: ألا تستحق دماء المسلمين الغزيرة التي تسيل أنهارا وتهدد بتقطيع أوصال بلد مسلم مع إشعال نار الفتنة بين السنة والشيعة ألا يستحق ذلك استنفارا بين علماء الأمة واحتشادا لأجل نصرة العراق واستنقاذه من ذلك الجنون الذي يعصف به، هل هانت دماء المسلمين إلى الحد الذي لم تتساو فيه مع الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية؟

هذا الصمت يعبر عن خلل جسيم في الإدراك الذي يهون كثيرا من شأن قيمة البشر ومصائر الأوطان لدى شرائح واسعة من المسلمين، وهو ما يذكرني بمقولة الشيخ محمد الغزالي الذي استفزه ذلك الخلل ذات مرة فعبر عن أساه بقوله: أن دماء غزيرة تسيل في عالمنا العربي والإسلامي إذا اعتدي على عرض فتاة لكن الاعتداء على عرض الأمة لم يعد يحرك ساكنا في بحيرتنا الراكدة!

ترى، لماذا يسكت علماء الأمة على الجانبين السني والشيعي، على انتحار العراق بعد اغتصابه وانتهاك عرضه؟