حروب الرئيس صدام حسين..!

TT

إذا كانت هناك فضيلة للعالم الغربي فهي أنه لا يكف عن الدراسة والتعلم من الماضي والحاضر، والإعداد الذى لا يتوقف للمستقبل الذى يجري في ظل شروط وظروف مختلفة عما نعرفها. وليس معنى ذلك أبدا أن الغرب لا يرتكب كثيرا من الأخطاء ـ وأحيانا الخطايا ـ الفادحة لأن ذلك جزء من الطبيعة غير الكاملة للإنسان، وإنما القضية الأساسية هي كيف تتعلم من الأخطاء سواء تلك التي تقوم بها أو تلك التي يرتكبها الآخرون. وفي العالم العربي حيث يصعب تحمل المسؤولية، فإن الجزء الأعظم من الكوارث يجري تحميلها على أكتاف الآخرين في الشرق أو في الغرب ويخرج الجمع العربي في العادة طاهرا نظيفا عفيفا بلا واجبات يقوم بها ولا مسؤوليات عليه تحملها. وفي أحوال كثيرة فإن الأخطاء يجرى حذفها كلية من التاريخ لعل حذفها لا يجعلها وقعت من الأصل؛ وذات مرة قال لي المحلل العسكري الإسرائيلي المعروف زيف شيف خلال مؤتمر دولي أنه شعر بدهشة بالغة عندما قام بزيارة «بانوراما» حرب أكتوبر في القاهرة ولم يجد فيها شيئا عن «الاختراق» المعروف لدينا باسم «الثغرة»؛ ولا أدري ساعتها لماذا تخيلت أن ما قال عنه الرجل شعور بالدهشة كان شعورا هائلا بالسعادة!.

مناسبة الحديث هو ما أذيع عن تقرير عسكري أمريكي سوف ينشر بعضه قريبا حول السلوك العسكري العراقي أثناء معارك الغزو الأمريكي للعراق، الذى تم تجميعه من تحقيقات جرت مع جمع من القادة السياسيين والعسكريين العراقيين. فلأول مرة يصبح بقدرة الولايات المتحدة أن تكتب تاريخ الحرب على الجانبين بحيث لا تتعلم فقط مما قامت به، بل إنها أيضا تتعلم مما قام به الطرف المقابل، وربما الأهم أنها سوف تبني نمطا مستقرا من سلوك القادة العرب أثناء المعارك الحربية العظمى إذا ما أضيف التقرير الحالي إلى عدد من التقارير الأخرى التي جرت بعد الحروب العربية ـ الإسرائيلية المختلفة، والحروب العربية ـ العربية المتنوعة. وفي العادة فإن مثل هذه الدراسات في العالم الغربي كانت تستهدف التعلم من استراتيجيات وتكتيكات الطرف الآخر لتضيف للفكر الاستراتيجي والعسكري، ولكن دراسة العالم العربي تضيف السياسة الفريدة أيضا للقائمة.

فالقائد العربي صدام حسين مثله مثل غيره من القادة العرب توجد له سلسلة من التخوفات التي تختلف عن هؤلاء الدارسين للعلم الجيو استراتيجي؛ فالتهديد الأول لا يأتي من الخارج أو من الولايات المتحدة التي كانت جيوشها تتأهب لغزو بلاده، وإنما يأتي من شعبه أو بعض من شعبه. وكان الهم الأعظم للمهيب هو قيام تمرد شيعي حتى بعد أن بدأت العمليات الحربية وبدأ القصف الأمريكي في العشرين من مارس 2003، ولذلك فإنه منع قادته من نسف الجسور على نهر الفرات لكي تستعملها القوات العراقية لقمع التمرد المتوقع إلا بعد أن فات الوقت للقيام بذلك بصورة فعالة فاستعملتها القوات الأمريكية. والأدهى أن الرجل صاحب التسعة والتسعين اسما من التعظيم، كان يخاف جيشه أكثر من الجيش الأمريكي المهاجم، فحتى بعد بدء الحرب فقد استمرت الأوامر المانعة للاتصال بين الوحدات العراقية المختلفة خوفا من قيامها بالتنسيق فيما بينها للقيام بالانقلاب على الحكم. وطبقا لواحدة من الشهادات المقدمة من العراقيين فقد كان على القادة العسكريين العراقيين القيام بعمليات استطلاع للتعرف على مواقع القوات العراقية؛ وربما كانت هذه هي المرة الأولى في التاريخ العسكري الذى يصبح فيها على القادة الميدانيين القيام بهذا الواجب. والأخطر أن هؤلاء القادة العسكريين لم يكونوا يعرفون قدرا كبيرا عن القدرات العسكرية العراقية، وبعد أن أصيبوا بالذهول عندما قال لهم صدام حسين قبل وقوع الحرب بثلاثة شهور فقط بأن العراق لا يمتلك قدرات نووية أو كيماوية أو بيلوجية، فإنهم عادوا للتشكك مرة أخرى بسبب إعلانات الرئيس جورج بوش المتكررة عن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل التي وجدوها أكثر جدارة بالتصديق من أقوال رئيس يكذب دائما. ومن سخرية القدر أنه في المرة الوحيدة التي كان فيها صدام حسين صادقا وطالبا من أعوانه إزالة كافة الآثار الخاصة بالأسلحة المحرمة، فإن عملية الإزالة التي تم تصويرها واعتمد عليها كولن باول وزير الخارجية الامريكي خلال شهادته أمام مجلس الأمن، فهم منها الأمريكيون أنها عملية لإخفاء الأسلحة.

ومن المدهش حقا أن الرئيس العراقي كانت له صورة عن التهديد الأمريكي تماثل تماما تلك السائدة في الشارع العربي والصحافة العربية، فكما حدث خلال حرب تحرير الكويت فقد استبعد صدام حسين قيام الولايات المتحدة بالغزو استنادا إلى أنها لا ترغب في تحمل تكاليف بشرية فادحة، ومن ثم فإن غاية مقاصدها لن تزيد عن قصف جوي أو احتلال الجنوب العراقي للسيطرة على عدد من حقول النفط. أما التهديد «الحقيقي» الذى كان يعتقد فيه صدام حسين فهو ذلك القادم من إيران الذى اعتقد ـ حسب رواية معاونيه ـ لأنها تقوم بتطوير أسلحة نووية وأخرى للدمار الشامل. وهكذا فإن رجلنا سبق الولايات المتحدة في الشك حول القدرات الإيرانية التي أصبحت الآن واحدا من أهم الموضوعات على قائمة العلاقات الدولية.

وهكذا كان لصدام سلم آخر لأولويات التهديد جاءت فيها الولايات المتحدة في مكانة متدنية وهي التي كانت تعد العدة وتحشد الحشود، وكما هي العادة فإنه أعطى القوات المسلحة للأقل كفاءة وموهبة وقدرة؛ ومن ناحية التفاصيل فإن تولي المشير عبد الحكيم عامر لقيادة الجيش المصري قبل عام 1967 كان قصة مكررة في العالم العربي. وفي بغداد كانت القيادة العسكرية قد انعقدت لأولاد صدام وحاشيته من الأقرباء الذين لم يصلوا إلا إلى درجات دنيا من العلم العسكري، وفي حالة من الحالات انعقدت الألوية لقيادة سكيرة وجاهلة. وبعد ذلك كله، وخوفا من الانقلاب العسكرى جرى إبعاد القوات الرئيسية إلى الحدود مع إيران وفي المنطقة الكردية أو قربها. ومن المعلومات المعروفة الآن من التاريخ الأمريكي عن الحرب أن هذا القرب هو الذى أتاح للمخابرات المركزية الأمريكية تجنيد عدد من القادة العسكريين العراقيين الكبار بحيث لم تطلق قواتهم بعد ذلك طلقة واحدة أثناء المعارك!.

ولكن هذه قصة أخرى حول كيف استغلت الولايات المتحدة الحالة العراقية، وربما كان الأهم هو أننا لم ندرس أبدا لماذا أتى صدام حسين وأمثاله إلى الحكم في بلدان عربية متنوعة؛ وفوق ذلك كيف بقي هؤلاء لآجال طويلة ومن بعدها حصلوا على التمجيد والتبجيل؟. وبعد حرب الفوكلاند ـ مالفيناس ـ وهزيمة الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين قام الشعب بتغيير نظام الحكم كله وتحويله إلى نظام ديموقراطي، ولكن بعد هزيمة صدام المرة في حرب الكويت فإنه لم يبق فقط في الحكم بل أعلن انتصاره في الحرب واحتاج الأمر إلى حرب أمريكية أخرى لكي تتم الإطاحة به. وبعد كل هذا التاريخ فإن المحاكمة الحقيقية لصدام حسين أمام التاريخ لم تجر أبدا حتى الآن، وبشكل ما فإن محاكمته الحالية تظهره في مكان الضحية وليس المتهم بجرم فادح، الظاهر منه قتل الإنسان ولكن المخفي فهو ضياع الشعوب والدول ..!.