العراق.. ليت الغزو الأمريكي كان مغولياً..!

TT

سقطت دولة صدام حسين غير مأسوف عليها، وهي دولة البعث الثانية، التي جاءت لتبقى. وأحسب كلمة صدام لقاضي القضاة رؤوف رشيد عبد الرحمن: «لولا أمريكا لا أنت ولا أبوك تستطيعان إحضاري إلى المحكمة» كانت صادقة. فالنية والواقع «جئنا لنبقى». نقلت هذه العبارة عن أحمد حسن البكر، رئيس وزراء دولة البعث الأولى ورئيس جمهورية الثانية. واحسب أن الرغبة في تأبيد السلطة هذا مقتبس من خطبة عم الخلفاء العباسيين داود بن علي: «اعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم» (تاريخ الأمم والملوك).

وهنا لا نريد التقليل من محاولات العراقيين، إلا أنهم مع دولة البعث كمن ينقش على الماء، فالعدة كانت «الأمر فينا ليس بخارج منا» بأي ثمن كان. هذه حقيقة، لكن النقاش يدور ليس على دعم أميركا لإسقاط نظام صدام، بل كان على الآلية: هل تكون غزواًً، أم بالتمكين، ماعدا الغزو. وحصل ما حصل، وأنست فرحة السقوط ويلات الغزو، وما أعقبها من الكوارث التي تُخلفها الجيوش عادة. بعدها ذهب الأمريكان بحماقة، أو بنية مبيتة، إلى الأمم المتحدة ليعلنوا أنهم محتلون!

هنا أجد شيئاً من المماثلة بين يوميات دخول خيل المغول بغداد (الأربعاء، السابع من صفر656 هـ)، ودخول دبابات الأمريكان (الأربعاء، السادس من صفر 1424هـ)، وها نحن في صفر. ومعلوم أن مجتمعا كبيرا من العراقيين يكرهون شهر صفر، وكنا في طفولتنا نُكلف بأخذ عيدان خضراء والضرب بها على البيوت في منطقة الأهوار، مع القول طرداً للشر: «طلع صفر يا محمد يا علي». كذلك من تاريخ عوائدهم كراهة يوم الأربعاء، ماعدا الأيزيديين جعلوه يوماً مقدساً، قبل دخول المغول بدهور. قال أبو حيان التوحيدي في النحسين: «يا أول ليلة الغريب، إذا بعد عن الحبيب، يا طلعة الرقيب، يا يوم الأربعاء في آخر صفر» (الرسالة البغدادية). وما نقله التاريخ أن تطابقت عقيدتهم بالشؤم من هذا الشهر وهذا اليوم بدخول المغول، فأخذ الرعب بالألباب: بغداد، وأربيل والموصل. ودفع الفزع وجهاء المدن الأخرى لإقناع جحافل المغول أن لا تجتاح مدنهم، فكان لهم ذلك: الحلة والكوفة وتوابعهما مثالاً.

تبدلت المشاعر بعد 728 سنةً من ذلك الحدث، وتجاوزت نحس صفر والأربعاء، يوم دخول الأمريكان، وأبهج المشهد أغلبية أهل العراق. لكن تدريجياً عادوا، وبفعل حماقات الغازي، وعدم تدرب صدور المعارضة على السلطة، وتجاوز وصايا الإمامين النعمان والصادق، في التعالي على ممارسة السلطة، وعلى الإكثار من الثروة. عاد الشؤم من جديد، رغم أن جبروت صدام أمام المحكمة «لا أنت ولا أبوك» قلل من ذلك الشؤم، فالشؤم في تأبيد القسوة والقهر، مثلما خطط الرئيس الأسبق والمتهم الحالي. رغم وحشية الجيش المغولي، الذي استغرق أربعين عاماً حتى يصل أسوار بغداد، يحفظ له الحصافة والصدق في تصفية أثر الخراب، واعادة الأمن والأمان بسرعة مذهلة، لم يمارسها الأمريكان رغم فارق الزمن وتبدل الوسائل وتقدم الأفكار والحيل. وقد سبق أن عرجنا على المماثلة بين الغزوين، وكانت قلاع الإرهاب آنذاك والتقارب بين القاعدة ونظام صدام في هذا الوقت وراء استقدام الجيشين، أتى مع ذاك أمراء وفقهاء مسلمون، وأتى مع هذا معارضون عراقيون (الشرق الأوسط، بين زمنين 14 أكتوبر 2004).

استباح الجيش المغولي عاصمة العراق، وبعد يومين أي في التاسع من صفر من السنة نفسها، جلس أمراؤه إلى جانب هولاكو في قصر الخلافة، وأُحضر الخليفة، وقال له هولاكو شامتاً: «إنك المضيف ونحن الضيوف، فهيا أحضر لنا ما يُليق» (الهمداني، جامع التاريخ)، ولم يقتنع هولاكو بما أحضر الخليفة، إنما أراد الدفائن، وكان منها حوضٌ مملوءْ بالذهب الأحمر «سبائك تزن الواحدة مئة مثقال». وبعد أسبوع من دخول بغداد، شكل هولاكو حكومة قوية لإدارة البلاد، ترأسها صاحب الديوان السابق فخر الدين الدامغاني، وابن العلقمي وزيراً، وعلي بهادر وزيراً للمالية «وعينوا المحتسبين لمراقبة المقاييس والأوزان»، وجعلوا (قراتاي) المغولي أميراً، وعماد الدين القزويني نائباً، ونظام الدين البندنيجي قاضياً للقضاة. وعمرت الأسواق. وبادر الأمير المغولي إلى إعادة اعمار مسجد الخليفة، ومرقد الإمام موسى الكـاظم، مـن أضـرار الحرب.

بالمقابل ترك الأمريكان العراق بلا حكومة ولا جيش ولا إدارة. والكل يتذكر أن شخصاً مجهولاً هب من الشارع وعين نفسه حاكماً على بغداد، وآخر استخدم عشيرته وأصبح محافظاً، وعمت الفوضى، وامتلأت البلاد بمخابئ الأسلحة، وفتحت الحدود على مصراعيها. كان الأمير (قراتاي) أكثر تدبيراً من الأمير بول بريمر، يسمع رأي المستشارين، ووضع السلطة الحقيقية بيد الموظفين، وشمر عن ساعده لأعمار بغداد. بل شكلت فرقة من «ثلاثة آلاف من فرسان المغول، وبعث بهم إلى بغداد ليقوموا بالعمارة في الحال، وليعملوا على استتباب الأمن» (الهمداني، جامع التواريخ). وما أن مات حاكم الموصل بدر الدين بن لؤلؤ حتى سارع هولاكو إلى ملء الفراغ الإداري بتعيين ولده أميراً.

وعالج المغول مسألة الطائفية المزمنة بالعراق، والتي جعلها مؤرخون خطأً سبباً لاجتياح بغداد، وبحصافة أيضاً، استقبلوا المذاهب كافة، وإن حرم المذهب الإمامي من الحظوة في ركن من أركان المدرسة المستنصرية، دخلها الفقيه ابن طاوس (ت664هـ)، وأفتى فتواه الشهيرة «تفضيل العادل الكافر على المسلم الجائر» (الفخري في الآداب السلطانية). وابن طاوس هذا غير طلاب للسلطة ولا للثروة، سار على طريق الأصفياء، لا يستبدلون عمائمهم بتيجان الملوك، رفض الوزارة التي كلفه بها المستنصر بالله (ت640هـ)، ورفض أن يكون سفيراً بينه وبين المغول.

وأنا أوازن بين نجاح وحصافة المغول ببغداد، رغم تخلفهم بحكم الزمان والمكان، وبين فشل وحماقة الأمريكان، رغم تطورهم الإداري، يحضرني رد السلطان جلال الدين خوارزمشاه بعد احتلاله تبريز، وقسوة جنوده على الناس، على مَنْ طلب منه إدارة البلاد: «إننا في هذا الوقت غزاة فاتحون للبلاد، ولسنا مدبرين لشؤونها، ولا يشترط عند الغزو مراعاة شؤون الرعية». وهذا ما فعله الأمريكان وهم يتفرجون على نهب الدولة عن بكرة أبيها، ولم يحركوا ساكناً! وكأن لسان حالهم يقول: «سأعطيك ما شئت أرضاً موات».

[email protected]