الحكم الصارم .. الخفيف الظل

TT

هناك من الناس من ينام (كالمومياء) ـ أي لا حركة ولا بركة ـ وهناك من يتقلب طوال الليل كمن قرصته أفعى أو (بخّ) في وجهه هر، وهناك من يتكلم أو يهزج وبعضهم يصيح ويستغيث ويشتم ويطلق المفرقعات، وكل هؤلاء يهونون ويتواضعون عند من يسيرون وهم نيام، وقد يفتحون الأبواب، ويرتقون أو يهبطون السلالم، ثم يعودون إلى مضاجعهم بسلام، وبعضهم قد (يتكرفسون) ولا يفيقون إلاّ على الم الكدمات ومنظر الدماء.

والحمد لله لم أتورط في هذه الحالة إلا مرة واحدة وذلك قبل سنوات، عندما صحوت على نفسي وإذا أنا داخل خزانة الدولاب، ويبدو لي ـ والله اعلم ـ أنني حلمت أن مشواراً أو موعداً هاماً كان لا بد وان اذهب إليه هو الذي دفعني لأن اتجه إلى دولاب الملابس دون أن اعي، لأنني صحوت على نفسي وقد لبست ثوباً جديداً، ولكنني لبسته للأسف بالمقلوب ـ على أية حال فما على النائم حرج ـ وكانت هذه هي الحالة الوحيدة التي سرت فيها وأنا نائم والحمد لله أنها لم تتكرر، لأن نومي بعدها أصبح اقرب إلى نوم (المومياء).

غير أنني ما زلت اذكر زميلاً لي في المرحلة الابتدائية عندما كنا في القسم الداخلي، كان يزعجنا في كل ليلة بتخبطه بالسرر والجدران وأحياناً يتخيل انه يلعب كرة قدم.

ولكن من القصص النادرة التي حصلت في مصيف (سانت اورس) في فرنسا عام 1888، أن كان رجل أعمال مع زوجته يسكنان احد الفنادق، وذهب الزوج ليسبح ليلاً في البحر، غير انه لم يعد وفي الصباح وجدوه على الشاطئ مقتولاً برصاصة اخترقت رأسه، واستدعت إدارة البوليس ابرع محقق ويدعى (روبير لودرو) ليكشف سر هذه الجريمة الغامضة، إذ إن محفظة القتيل وجدت في جيبه ولم يؤخذ منها شيء، كما انه ليس غنياً لكي يطمع احد بأمواله، وكان محبوباً ذا سمعة طيبة، وعندما وصل (لودرو) إلى مكان الجريمة طوق الموقع، واخذ يتفرس في كل اثر بل وكل حبّة رمل، ويقولون: انه وقف يحدق وقد استولى عليه الذهول، ثم انطلق يجوب الشوارع طوال الليل ويكلم نفسه، وفي الصباح قدم نفسه للبوليس قائلاً: انه هو القاتل، كيف؟!، يقول (لودرو): لقد كان القاتل يسير وهو يرتدي جورباً في قدمه، وتلاحظون الشذوذ الذي يتميز به هذا الأثر، فالأصبع الكبير مفقود، وأنا فقدت أصبح قدمي عندما كنت طفلاً، ثم انحنى وخلع حذاءه وكشف لهم عن قدمه.. وقد اعترف أن أحلامه كلها عدوانية، وكثيراً ما سار وهو نائم.

وحكموا عليه بالسجن وجاء في حيثيات الحكم: لما كان (لودرو) لا يصبح خطراً إلا إذا نام، فإن الرجل المستيقظ يجب ألا يموت بسبب جريمة رجل نائم، وعلى هذا الأساس يحكم عليه بالسجن المؤبد، لكن الحكم يوقف تنفيذه منذ طلوع النهار حتى سدول الليل، فيطلق سراحه من الشروق إلى الغروب، على أن يقدم نفسه إلى السجن كل مساء. وفعلاً استمر ينفذ هذا الحكم الصارم الخفيف الظل لمدة (51 عاماً) كاملة، إلى أن عتقه الله منه عندما توفي عام 1939 في زنزانته.

[email protected]