زمن الغناء الرديء

TT

ربطت الفنان الكبير محمد عبد الوهاب علاقات حميمة مع مثقفي عصره أمثال طلعت حرب وأحمد شوقي وعباس العقاد وتوفيق الحكيم وطه حسين وغيرهم، وكان لهؤلاء الأثر الأكبر على تحقيقه للمعادلة الصعبة في إبداع أعمال ترتقي بالذائقة الفنية إلى مستويات عليا مثل: «جفنه علم الغزل» و«الجندول» و«الكرنك» وغيرها من الروائع التي تغنى بها المثقف والإنسان العادي سواسية، وظل عبد الوهاب حتى بعد رحيله علامة كبرى في تاريخ الفن العربي.

واليوم ثمة حالة من انقطاع التواصل بين الكثير من الفنانين والمثقفين، بل حالة من عدم الاعتراف المتبادل بين الشريحتين باستثناءات محدودة جدا، فالبعض من الفنانين والفنانات قد يكتفي بصداقة «الطبال» و«متعهد الحفلات» ومصوري النجوم، وبالتالي فإننا نجد أن الكثير من الأعمال الفنية تقف على مسافة بعيدة من ذوق المثقفين وتعتمد في انتشارها على شريحة من الجمهور الذي تتفاعل مع ذائقته وتسجن إبداعها في دوائره المحدودة، وبالتالي ظلت جل الأغاني حبيسة إطارها التقليدي، فعلى مستوى الكلمة كمثال نجد أن الكثير من كلمات أغنياتنا العربية لا تحمل هما، ولا تتجاوز أن تكون نوعا من ترف عابر في زمن عابر لمستمع عابر.. وأنا هنا بكل تأكيد لا أنادي بوعظية الأغنية، ولكن أن يكون لها دور يتسع لاهتماماتنا الإنسانية وقضايانا الحياتية، خاصة وأن الأغنية يمكن أن تلامس النفوس بصورة أكبر وأسرع من أساليب التأثير الأخرى، فالأغنية العالمية اليوم لم تعد محصورة في الخلاف العاطفي بين العاشق ومحبوبته على طريقة «تبيني والا أطب البحر»، وإنما تجاوزتها إلى أغراض شتى أسرية واجتماعية وتربوية وسياسية منحت غناءهم ذلك الثراء الجميل في المعاني والصور والأبعاد.

ونحن في السعودية لدينا جمعية الثقافة والفنون بفروعها المختلفة، وكان يمكن لهذه الجمعية التي تجمع في مسماها بين الفن والثقافة أن تردم هذه القطيعة من خلال أنشطة مشتركة تجمع بين الشريحتين، وتعمل على تعميق العلاقة والثقة بينهما لمصلحة الارتقاء بالفن وبالذائقة الفنية للمجتمع.. كما أن على فنانينا الكبار أمثال الفنان المبدع محمد عبده قيادة مثل هذه التوجهات في مسار الأغنية، فهو الذي غنى قصيدة السياب «مطر» نجده يقف مترددا في المضي قدما في طرح رائعته الأخرى «التراب» لإيليا أبي ماضي، رغم فراغه من تلحينها منذ سنوات، وكأنَي به قد وقع هو الآخر في قبضة الذائقة الفنية السائدة فغدا يخشى التجريب، على الرغم من رصيده الفني الضخم الذي يمكن أن يشكل له قدرا كبيرا من الدافعية والحماية.

والخلاصة: فإن الأغنية العربية إذا أريد لها أن تتحرر من المغريات اللافنية المطبقة حاليا في الحفلات و«الفديو كليب» فليس أمامها إلا أن تخرج من أزمتها وتتجاوز ورطتها، وأن تقود ذائقة الجمهور إلى الأحسن بدلا من انقيادها، وإلا فعلى الغناء الجميل السلام.

[email protected]