قمة الخرطوم الجديدة: لا للاءات القديمة.. ونعم للصلح والاعتراف

TT

لا ينتظر العرب قمة الخرطوم، التي من المقرر أن تنعقد بعد أيام، بنفس مقدار انتظارهم لتلك القمة التي انعقدت في العاصمة السودانية بعد حرب يونيو (حزيران) عام 1967. فالأمس الذي كان قبل نحو تسعة وثلاثين عاماً هو غير اليوم. والهموم العربية الحالية هي ليست ذات الهموم التي ذهب بها قادة وزعماء هذه الأمة الى القمة السابقة، التي لم تجد ما ترد به على العدوان ومرارة الهزيمة إلا بإصدار اللاءات الثلاثة المعروفة.

الآن سيذهب الزعماء والقادة العرب الى الخرطوم، وقد تبدلت أحوالهم وتغيرت اهتماماتهم، فشعار: «لا مفاوضات. لا صلح. لا اعتراف»، أكلته المستجدات التي طرأت خلال العقود الأربعة الماضية، والقادة الذين ذهبوا الى تلك القمة، التي أصدرت تلك اللاءات، بوجع وذل هزيمة يونيو قد رحلوا عن هذه الدنيا الفانية، وجاء بعدهم قادة جدد أكثر واقعية وأقل «رومانسية».

لم تعد لاءات الخرطوم الشهيرة واردة، والمؤكد أن يؤدي مجرد ذكرها في هذه القمة الجديدة الى السخرية والاستهزاء. فعالم نهايات ستينات القرن الماضي لم يعد قائما، ولم تعد هناك حرب باردة ولا صراع معسكرات، والوجود الإسرائيلي في هذه المنطقة غدا حقيقة لا نقاش فيها، والعرب كلهم باتوا مع المفاوضات ومع الصلح ومع الاعتراف، وكانوا في قمة سابقة هي قمة بيروت قد أقروا مبادرة السلام العربية.

عندما ذهب الزعماء والقادة العرب الى قمة الخرطوم السابقة كان ذل هزيمة يونيو لا يزال طريا، وكانت حرب اليمن لا تزال تسمم الأوضاع العربية كلها، وكان هناك قطبان عالميان هما الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، كما وكان هناك معسكران دوليان، المعسكر الشرقي الاشتراكي والمعسكر الغربي الرأسمالي، وكان بالإمكان التلاعب بهذه الورقة رغم أن هناك من كان يوالي المعسكر الأول ويتحالف معه، وكان هناك من هو محسوب على المعسكر الثاني ويعتبر متحالفا معه.

الآن سيذهب العرب الى قمة الخرطوم الجديدة، بعد أيام، وقد أصبح العالم يقف على قدم واحدة، وهذا يعني أن هوامش المناورة قد تقلصت الى أبعد الحدود، وأن الولايات المتحدة، التي غدت بعد احتلال العراق، حديدة العديد من الدول العربية، قد أصبحت هي الخصم والحكم في الوقت ذاته، وأن اللغة التي استخدمت قبل نحو تسعة وثلاثين عاما لا يمكن استخدامها لأنها لم تعد مفهومة ولا مقبولة وباتت خارج إطار الزمن ومعطياته.

وهنا فإن ما يمكن أن يعتبر حبلا سرِّيا واحدا بين تلك القمة وهذه القمة المقبلة، هو أنه لا يزال هناك من يتحدث بلغتين هما: لغة الغرف المغلقة، ولغة التصريحات والمؤتمرات الصحافية. ولعل الذين تابعوا قمة بيروت الأخيرة يذكرون كيف أن بعض الذين كانوا في الاجتماعات السرية الأكثر حماسا لمبادرة السلام العربية كانوا أمام عدسات الفضائيات و«كاميرات» الصحافيين الأكثر عربدة ومزايدة، و«ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»!!.

كانت قمة الخرطوم السابقة قد أقرت بالإضافة الى لاءاتها الشهيرة التي اتخذت بالإجماع، حتى بمن في ذلك الذين كانوا يعرفون حقائق الأمور في هذه المنطقة وفي العالم كله، قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، على اعتبار أنها الدولة الداعمة لإسرائيل، وأنها شاركت مشاركة فعالة في العدوان الذي أسفر عن احتلال باقي ما تبقى من فلسطين، واحتلال سيناء، وأيضا احتلال هضبة الجولان السورية التي لا تزال محتلة رغم مرور كل هذه السنوات الطويلة.

كان عبد الناصر الذي جاء الى قمة الخرطوم تلك بمعنويات مرتفعة، بعد أن تراجع عن استقالته الشهيرة تحت ضغط المظاهرات التي وصفها البعض في ذلك الحين بأنها مفتعلة، وقال عنها آخرون انها عفوية، الأكثر حماسا للاءات الثلاثة الآنفة الذكر، وهو الأكثر تشددا بالنسبة لقطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأميركية.

لكن ورغم هذا التشدد المعلن، فإنه حرص على أن يلتقي العاهل الأردني السابق الملك حسين، رحم الله الاثنين، سرا قبل أن تغادر الوفود عاصمة الدولة المضيفة، وطلب منه بما يشبه الرجاء، وهذا أمر مدون ومثبت، ألا يلتزم بقرار قطع العلاقات الدبلوماسية، وقال مما قاله: «إن المفاوضات ستكون (تحصيل حاصل)، وان التجارب علمتنا ألا نضع كل بيضنا في السلة السوفيتية.. واننا بحاجة الى الإبقاء على قناة اتصال مع الأميركيين لأننا سنكون بحاجة الى الاتصال بهم في المراحل المقبلة.. وأنت يا جلالة الملك خير من يمكن أن يكون قناة الاتصال هذه».

وبالطبع، فقد وافق الملك حسين على ما عرضه عليه عبد الناصر، لأنه بالأساس كان ضد سياسة إدارة الظهر، وضد سياسة الأبواب المغلقة، وكان المتوقع، ما دام ان هذا هو موقف «الجمهورية العربية المتحدة»، أن يصمت الإعلام المصري على انفراد الأردن بهذا الموقف، لكن المفاجأة كانت صاعقة عندما بادر «صوت العرب» الى شن حملة، على غرار حملاته الشهيرة، على القيادة الأردنية واتهامها بأنها خرجت على الإجماع العربي، وأنها غلَّبت ارتباطها بـ «الإمبريالية الأميركية» على انتمائها للأمة العربية.!.

والآن، فإنه على القادة العرب الذين سيذهبون الى العاصمة السودانية لحضور قمة الخرطوم الجديدة، أن يتوقعوا أن يسمعوا من بعض زملائهم داخل القاعات والغرف المغلقة شيئا، وأن يسمعوا من هؤلاء أمام عدسات الفضائيات و«كاميرات» الصحافيين شيئا آخر، وحتى وإن اقتصر جدول أعمال هذه القمة على بند واحد، وهو البند المتعلق بـ«إنفلونزا الدجاج»، وحتى لو لم تدرج الأوضاع العراقية والفلسطينية المتهاوية على جدول أعمال هذه القمة.

سيقول أولئك الذين زايدوا على زملائهم القادة العرب في بيروت وشرم الشيخ، والذين اعتادوا أن يحاضروا في القمم العربية في الثورية والكفاح المستمر والمتواصل، وفيما يجوز ولا يجوز، كأساتذة المدارس الابتدائية، انهم هم الوحيدون الذين يتصدون لـ «إنفلونزا الطيور»، وان أنظمتهم تتفرد وحدها بأساليب مقاومة هذا الوباء، وانه على الآخرين أن يتعلموا منها، وأن يدفعوا ما هو واجب عليهم أن يدفعوه كدعم لـ «المجهود» الذي تبذله هذه الأنظمة لمقاومة هذه الآفة التي تتهدد الأمة العربية.

سيسمع القادة العرب، الذين سيذهبون بعد أيام الى الخرطوم، محاضرات مملة عن معادلات الصراع في هذه المنطقة وفي العالم بأسره، وسيسمعون من ينصح «حماس» بألا تتنازل عن ثوابتها وعن مواقفها العقائدية، كما وسيسمعون من يبرر تفاوض إيران مع الولايات المتحدة من وراء ظهر الشعب العراقي وظهور رؤساء وزعماء دول المنطقة، ومن سيدافع عن حق الإيرانيين بأن يستكملوا مشروعهم النووي، حتى وإن كانت أهدافه عسكرية.

سيسمع القادة العرب كل هذا وأكثر منه. ولكن وفي كل الأحوال، فإن قمة الخرطوم الجديدة التي تنعقد في ظرف صعب وخطير، تعتبر فرصة هامة جدا للوقوف عند قضيتين، لا بد من الوقوف عندهما بكل جدية، هما: القضية الأولى، هي القضية العراقية في ضوء ما يتردد عن مفاوضات أميركية ـ إيرانية. أما القضية الثانية، فهي القضية الفلسطينية في ضوء ما استجد بعد فوز حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية الأخيرة.

إن المؤكد ان القادة والزعماء العرب الذين سيذهبون الى الخرطوم بعد أيام لعقد قمتهم الجديدة، يعرفون أن الوضع العراقي تجاوز الخطوط الحمراء، وأن عقد أي صفقة بين طهران والولايات المتحدة حول هذا الأمر، ستكون له انعكاسات خطيرة على المنطقة كلها، وسيجعل إيران مرة أخرى شرطي هذه المنطقة.

والقادة العرب يعرفون أيضا أن لاءات «حماس» التي ترفعها في وجه عملية السلام، وفي وجه السلطة الوطنية ومنظمة التحرير، هي لاءات إيرانية، وهي لاءات شركاء «آيات الله» في حلمهم بأن يفرضوا التحالف الذي يسعون لإقامته وإنشائه على الإقليم كله.