لوحة .. ولكنها شديدة البشاعة

TT

أول أمس بثت شبكة أخبار «ام سي إن بي سي» التلفزيونية خبرا يقول إن ناجي صبري، وزير خارجية العراق، قدم قبل أشهر من الحرب على العراق معلومات لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA أكثر دقة من تلك التي كانت تملكها حول برنامج أسلحة الدمار الشامل المزعومة، مقابل أكثر من مائة ألف دولار، ويقول الخبر إنه هو الذي اتصل بمسؤولي الوكالة عبر طرف ثالث خلال إقامته في فندق بنيويورك وهو في مهمة رسمية لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.

الخبر مزعج، وقد نفاه ناجي يوم امس متوعدا بمقاضاة الشبكة ـ مصدر الخبر، ومصدر الإزعاج فيه يتعدى صبري لجهة قراءة منظومة من الأخبار والوقائع التي حدثت مع هذا العراق سيئ الحظ.

بين تلك الأخبار، أن قناة «العربية» الفضائية كانت قد بثت قبل نحو اسبوعين ما أسمته «تسجيلات المخابرات الأميركية لاجتماعات مجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة العراقي، وفيها اغتاب صدام شخصيا معظم الدول العربية بدءا من جيرانه في الخليج ونهاية بمصر، فمن الذي زرع أجهزة التنصت؟، ولا يقل لي أحد إن هناك (دبلجة) .

وبين تلك الأخبار واقعة أن الذي دلّ القوات الأميركية على مكان عدي وقصي هو قريب لهما ليلقيا ذلك المصير المؤلم. ونفس الشيء حدث لبرزان حيث دل على مكان اختبائه قريب له. وهناك واقعة نقد رغد ابنة صدام في لقاء تلفزيوني لعلي حسن المجيد (علي كيمياوي) لتقول إن والدها صدام قد عفا عن الأخوين حسين وصدام كامل، (الأول زوجها)، ولكن علي كيمياوي قال للرئيس بالحرف: (الدولة أعفت، ولكن القبيلة لا يمكن أن تعفو عن الخيانة)، فكان الإعدام بتلك الصورة البشعة، لتترمل إبنة الرئيس وهي في ريعان الشباب، ومع ذلك الجمال المفترس، في مأساة نكص فيها (نظام عن كلمة شرف) أعطاها لرجلين فرا طلبا للجوء السياسي قبل الغزو، ثم عاشا وخزة ضمير، فكانت محاولة الرجوع على نحوها المعروف. وتلك وقائع حدثت ولا تحتمل المزايدة حول مصداقيتها كوقائع.

وبين تلك الأخبار، ومع السودان، البلد الذي يجيد الغيبة والنميمة (على الكبار والصغار)، ولكنه لم يتعرف الى زمان قريب (على الاغتيال والتصفية الجسدية)، ووفق رواية لي شخصيا من سيد أحمد الحسين وزير الداخلية وقتها، هاتف دبلوماسي عراقي من سفارة العراق بالخرطوم غرفة مهدي الحكيم ضيف المؤتمر التأسيسي للجبهة القومية الإسلامية حينذاك بفندق الهيلتون، وطلبه للنزول الى ردهة الفندق بتأليف رواية ففعل، وهناك ومع المصافحة، وضع المسدس على منتصف رأسه وأطلق فيه أعيرة نارية. وغادر القاتل في عربة مرسيدس تحمل لوحاتها أرقاما دبلوماسية الى السفارة العراقية منتشيا بوجبة إفطار دسمة أعدها والتهمها وقوامها نفس إنسانية. ويقول لي بلندن زميل في المهنة من العراق إن ثلاثين ما بين رجل وإمرأة من أسرتهم قد لقيت نفس المصير من نظام صدام، تصوروا ثلاثين، وليس مهدي الحكيم وحده.

من مجمل هذه اللوحة، ولست بصدد نقد فكر حتى لا يغضب الرفاق الجالسون على هذه الضفة، نحن أمام لوحة تتشابك أو قل تتعانق فيها أذية للوطن وحتى الوصول على أسنة الرماح الأميركية، والخيانة للأقارب (مصير عدي وقصي وبرزان)، واحتكام فكر لمنطق القبيلة (إعدام حسين وصدام كامل)، وللتصفيات الجسدية (أسرة الحكيم)، فهل هذا هو العراق ؟.

الإجابة لا وألف لا ؟ ، ليس هذا هو عراق حمورابي وأول بدايات التفهم لسيادة حكم القانون، ولا عراق نبوخذ نصر وأول بدايات الانتصار العسكري على اليهود، ولا هو عراق المأمون وتأسيس التنوير العربي مع عصور الترجمة، ولا هو عراق أفضل الشعر العربي، ولا عراق أحمد بن حنبل وتأصيل الفقه الاسلامي ولا عراق واصل بن عطاء والجاحظ والمعتزلة، ولا عراق البسطامي والحلاج والجنيد والشبلي ووهج التصوف مشكاة التسامح. فلم إذن رسم هؤلاء القوم هذه اللوحة بهذه البشاعة، مع أن ما لديهم من وطن يمتلك فعلا مقومات ألوان للوحة أجمل بكثير من وجه رغد وسائر وجوه رجال ونساء العراق ذلك الصبوح ؟، فهل من معين على الإجابة ؟.

[email protected]