العشاء الأخير

TT

دعانا صديق إلى وليمة عشاء في منزله، وبما أن الصديق متخرج من جامعة (السربون)، فشيء طبيعي أن يكون هناك على الأقل رجل فرنسي بين الحضور، وهذا ما كان، جلسنا في مجلسه على الأرض، وكان ذلك الصديق المثقف والمتعدد المواهب والغريب الأطوار، يترغل مع ذلك الفرنسي بلغته حيناً، ثم يلتفت إلى رجل بدوي من الحاضرين ويتبادل معه الأشعار النبطية الموغلة في غزلها الفاضح، وفجأة يتجادل مع شيخ وقور في مسألة فقهية معقدة، ثم يغير (بالريموت) نشرة الأخبار بالتلفزيون إلى مباراة في كرة القدم النسائية، وبعدها يلتفت لي مرحباً ويسألني سؤالاً في موضوع معين، وأبدأ بالإجابة الرزينة عنه، وقبل أن انهي كلامي وإذا به قد خاض مع شخص آخر في موضوع آخر مختلف، ولا اخفي عليكم أنني فوق انكباسي امتعضت وأحسست بالفشيلة، خصوصاً عندما لمحت من بعض الجالسين همسات وإشارات وضحكات، وكلها بالطبع كانت تصب في خانتي أو حالتي المزرية التي شاهدوني عليها عندما كنت اكلم الهواء.

فكرت بالانسحاب والخروج، وعندما هممت بالتحرك فعلاً عضني الجوع عضاً خفيفاً وكأنه ينبهني أن الخروج ليس هذا هو وقته، فبلعت الإهانة من اجل إرضاء المعدة فقط لا غير.. تظاهرت بالانشراح، وأخذت اضحك مع الضاحكين دون أن اعرف السبب، وكانت ضحكة صاحب الدار هي الأعلى والابشع دائماً.

وبعد أن كاد الليل ينتصف، وبعد أن كاد الصبر عندي يصل إلى منتهاه، وإذا بصبي نشيط مبتسم يفرش أمامنا سفرة من البلاستيك (مكحوتة) تدل دلالة واضحة على تعاقب أواني الأكل عليها على مر الأعوام، وتدل بالطبع على كرم مضيفنا، ورصت الصحون والسكاكين والشوك والملاعق والكاسات، وطالت بحلقتنا، ثم تقاطر الخير علينا، سلطة وخضار وأرز ودجاج، وسمك، وروبيان، وسلمون مدخن، وكبدة بط، وكفيار، وبعد ذلك وإذا بذلك الصبي النشيط يعاونه اثنان وهم يحملون صينية كبيرة ويضعونها وسط السفرة، وعندما كشفوها إذا بها لحم (حاشي) ـ أي لحم جمل ـ.. فذهلت وقلت لا شعورياً: ايش لم الشامي على المغربي؟!، غير أن المضيف طنش وكأنه لم يسمع كلامي، وقال للحضور بصوت جهوري: سموا بالله، ثم التفت لصديقه الفرنسي وقال له بصوت ناعم (بون بتي).

غرفت في صحني قليلاً من السلطة (البابا غنوج)، وأخذت أتأمل اليد الغليظة لصاحب الدار عندما توجهت رأساً لأضلع الحاشي المسكين لتنتزعها انتزاعاً (وتعرمشها) بطريقة لا تمت للاتكيت الفرنسي بأية صلة، ولم يترك صنفاً من الأصناف إلاّ ومرّت يده الكريمة عليه، ولأول مرة في حياتي أشاهد إنساناً يأكل الكافيار بيده ثم يلعقها.

وقد رثيت لحال الرجل الفرنسي عندما جلس يأكل على الأرض، فهو لا يستطيع أن يمد رجله، ولا يعرف كيف يتربع، وبنطلونه ضيق أكثر من اللازم ولا يريد أن يتحرك كثيراً لأنه يخشى عليه من التمزق، وأشفقت عليه عندما سمعته (يزحر)، وفوق معاناة ذلك المسكين رأيت المضيف يقطع بيده هبرة كبيرة من لحم الجمل، ويضعها في طبقه فوق الشريحة الرقيقة لسمك (السلمون) الذي عصر عليه لتوه بعض الليمون.

لا أريد أن أطيل عليكم، فقد كنت أول الناهضين من السفرة العامرة، بعد أن تناولت طبقاً صغيراً من (الكريم كرملا)، قائلاً للمضيف وأنا أهم بالخروج: انعم الله عليك، ورد عليّ دون أن يرفع رأسه أو يتوقف عن الأكل قائلاً: (مرسي)، وعندما وصلت إلى سيارتي لم أتذكر سوى لوحة (العشاء الأخير) للفنان ليوناردو دافنشي.

[email protected]