محاضرة بلير : بروباجندا البيضة والحجر

TT

واجهنا رئيس وزرائنا توني بلير، كمراقبين للسياسة الخارجية، بحيرة كبيرة هذا الأسبوع، خاصة واننا نتابع سياسته في إطارات مختلفة: المصالح المشتركة مع أصدقاء بريطانيا وحلفائها في الشرق الأوسط والعالم؛ السلام العالمي اللازم للاستثمار والنمو الاقتصادي؛ ومصلحة دافع الضرائب الذي يمول سياسته ويدفع فاتورة أخطائه.

محاضرته الثلاثاء ـ الأولى من ثلاث ـ عن مبادئ سياسته الخارجية، الفعالة والنشطة في مواجهة الارهاب بتدخلات استباقية، ولنسميها بـ Blair Doctorine مبدأ بلير ـ على وزن مبدأ مونرو أو مبدأ ريغان كسوابق لسياسة خارجية فاعلة للدفاع عن المصالح والديموقراطية ومصالح الحلفاء في إطار السلام العالمي.

مبدآ ريغان ومونرو نجحا في التطبيق، الى جانب بساطة التعريف.

مونرو للحفاظ على المصالح في المنطقة الجغرافية المتاخمة، بالتدخل العسكري المباشر عند اللزوم في الحوش الخلفي (أمريكا الوسطى).

وريغان امن Consensus (اجماع) العالم الحر كزعيم حقق النصر للديموقراطية والليبرالية على ديكتاتورية المعسكر الشمولي من دون إطلاق نيران يذكر، باستثناء التدخل في جرانادا كتأكيد لاستعداده لتنفيذ الوعود بوضع الإمكانيات العسكرية في خدمة الشرعية الدستورية بإعادة الديموقراطية لجرانادا.

وحقق بذلك سابقة تلقفتها وريثته في زعامة العالم الحر البارونة مارجريت ثاتشر، رئيسة وزرائنا السابقة، (وكانت لدهائها السياسي، تقود في الخفاء وليس علنا، حفظا لماء وجه الرئيس الأمريكي)، عندما أيقظت الرئيس جورج بوش الأب من سباته (فعليا وسياسيا) في اغسطس عام 1990، بقولها: «هذا ليس وقت التردد يا جورج»، وتدفعه الى مقعد القيادة. كما نجحت دبلوماسيتها في تأسيس تحالف متعدد الألسن والديانات من 28 أمة في إطار الشرعية الدولية، لتحرير الكويت من عدوان صدام حسين.

وبالمقارنة مع تلك العقائد أو المبادئ، يتقزم مبدأ بلير. فقد أهدر فرصة تولي القيادة العالمية (وكان باستطاعته وضع جورج الأصغر في جيبه لتواضع إمكانيات الابن الذهنية والسياسية مقارنة بالأب)، ففقد المصداقية مع الطبقة السياسة البريطانية. وجاء توقيته لترويج فلسفته في الحرب على الإرهاب سيئا، عندما قصفنا بوابل من البلاغة شديدة الانفجار، فشلت في اختراق أذهاننا فرفضنا قبولها كبديل عن فشل استراتيجيته الشرق أوسطية من اريحا الى البصرة.

ولم تفلح التعزيزات التي أرسلها حليفه الرئس بوش، بخطاب عابر للقارات أطلقه من البيت الأبيض في الذكري الثالثة لعملية «حرية العراق» ـ التي لم تنته بعد. فتحالف بلير مع بوش كان العامل الاساسي لرفض اليسار (ومعظم الليبراليين) لسياسته الخارجية (وان أعمى ذلك يسار الحزب الحاكم عن التقييم الموضوعي لمشكلة العراق كنتيجة لغياب الاستراتيجية الامريكية وهو ما لا ذنب لبلير فيه). كما ان سيطرة اليسار على أغلبية الأعلام يعمق مأزق بلير بدلا من بحثه استراتيجية الخروج من العراق.

وكمعلق سياسي أوافق بلير، من ناحية المبدأ، على ضرورة التزام استراتيجية فعالة نشطة في مواجهة الإرهاب، بدلا من سلبية اوروبا الخاملة (التي يروجها اليسار)؛ وعلى ضرورة التعاون مع الحلفاء الشرق أوسطيين والليبراليين المسلمين لمواجهة التطرف الأصولي في سرقته لفلسفة الدين وإعادة صياغتها كي يبرر الإرهاب ويروج له. وأوافقه على اننا لا نواجه صراعا بين الحضارات، بل هو صراع حضارة البشرية، كما نعرفها، ضد همجية إرهابيي القاعدة والمروجين لفكرهم.

لكن حيرتي كمعلق هي صعوبة أخذ فلسفته على محمل الجد، سواء للأسباب التي ساقها لدخول الحرب (مع قناعتي بمبدأ التدخل النشط لإسقاط ديكتاتوريات كنظام البعث)؛ ولتوقيت بلير واعتماده على بروباجندا «البيضة والحجر» أو spin بدلا من شفافية تقديم سياسة واضحة تخضع لمقاييس النجاح والفشل عمليا، وليس بالبلاغة اللغوية.

كما أن جدله بأن رئاسته للوزارة «انفردت» بمبدأ الاستراتيجية النشطة (أي التدخل الاستباقي، وهو مشروع في ظروف معينة حسب المادة 52 من ميثاق الامم المتحدة)، ارتد الى صدره عندما قارن وزارته بوزارات الحربين العالميتين. فهو ينفرد فقط بتوظيف الألفاظ الإذاعية Sound Bytes كجزء من البروباجنداSpin وتعبيرات العلوم السياسية المعقدة. وقد يعجب الساسة الأمريكيون المتقاعدون في خزانات التفكير بهذه التعبيرات، لكنها مادة لمنولوجات الكوميديا تثير سخرية الناخب البريطاني.

وقد فضل السير ونستون تشرشل وقار سيجاره الشهير على هذه التعبيرات، أثناء قيادته للعالم الحر في صراعه مع النازية.

ويمكن تشبيه أداء بلير يوم الثلاثاء، بجدية أداء الراحل السير لورانس اوليفيه في دور هنري الخامس وهو يشحذ همم الإنجليز قبل النصر على الفرنسيس في اجينكور Agincourt الشهيرة، وفجأة يضحك الجمهور بدخول مهرج عملاق يهرب من قزم يضربه بالشلوت.

فبينما كان بلير يحاضرنا عن «إنجاز» استراتيجيته في العراق، اقتحم مسلحون مركز بوليس في بغداد ليقتلوا 22 شرطيا ويطلقون سراح 33 معتقلا!.

وبينما كان رئيس الوزراء يعزف قيثارة السياسة الخارجية، كانت لندن تشتعل بفضيحة مزاد منح الألقاب في مجلس اللوردات للمليونيرات، ليس مقابل تبرعهم للمستشفيات أو المدارس، وإنما لإقراضهم حزب العمال الحاكم، (لأن البنوك ترفض اقراضه خشية فلاسه قبل رد القرض)، بدلا من التبرع للحزب كمحاولة للالتفاف حول اللوائح التي وضعتها حكومته تستلزم تسجيل التبرعات، وليس القروض، لمحاربة فساد الحياة السياسية..

وحاولت مصادر داوننج ستريت إقناعنا بأن محاضرات بلير أعد لها على المدى الطويل، لكنها تبدو محاولة للهروب الى السياسة الخارجية من فضائح السياسة وفرقعات سياط الصحف؛ وحتى الموالية تقليديا لحزبه، كالجارديان، طالبته بالاستقالة.

بينما يشك بعضنا في انها تمهيد للرأي العام بقبول عمليات عسكرية امريكية ضد ايران. وربما لا تشترك فيها بريطانيا مباشرة؛ لكن هل يستطيع بلير أن يرفض استخدام الأمريكيين للقواعد هنا او القواعد البريطانية في البحر المتوسط والخليج والمحيط الهندي؟

وهذا بدوره سيعرضنا في بريطانيا، وحلفاءنا في المنطقة، لانتقام ايران.

وكانت الاسوشييتد برس كشفت الثلاثاء مذكرة بعث بها مدير السياسات في الخارجية البريطانية الى نظرائه الاوروبيين، حول دور لبريطانيا في الضغط على ايران وتمهيدا لصياغة قرار في مجلس الأمن يفرض عقوبات على ايران، تحت الفصل السابع، الذي يعطي شرعية تنفيذ القرار بالقوة إذا لزم الأمر.

ومما يثير الشكوك أيضا ان جوهر محاضرته يوم الثلاثاء، لا يختلف عن محاضرة ألقاها في شيكاغو منذ أربع سنوات وقبل عشرة أشهر من حرب العراق.

بلير كرر فشل بوش في إقناعنا بعلاقة الحرب على الإرهاب بالحرب في العراق (اللهم إلا بتدفق مئات الإرهابيين من أركان الدنيا الأربعة على العراق كنتيجة للفوضى التي خلقها الامريكيون في وسط العراق).

وبالتأكيد لا تصلح الكلمات الطنانة وبروباجندا العمال الجديدة Spin بديلا للعمل الفعلي أو لإصلاح المدمر من دعامات جسور ربط استراتيجية مبدأ التدخل النشط بالعالم الإسلامي، خاصة وانه لا قضاء على الإرهاب والفكر المروج له من دون جهاد غالبية المسلمين المسالمين في هذا الشأن.

وربما كان من الأنفع لبلير ولنا، دافعي الضرائب البريطانيين، أن يهتدي بخطاب ولي العهد الأمير تشارلز في الجامع الأزهر في اليوم نفسه.