خطورة التحديات أعلى من مستوى.. القمة

TT

مع العد التنازلي لانعقاد القمة العربية في الخرطوم والانتخابات الإسرائيلية العامة، قرأت بالأمس مقالة قيّمة لدبلوماسي عربي مقيم في الخارج يتطرق فيها إلى موضوعين مترابطين هما ضعف التمثيل الشعبي في القمة العربية، وتعذر تحقيق إلزامية تنفيذ القرارات بسبب «الفجوة بين القمة والشعوب»، مما يدعو برأيه إلى تأجيل القمة.

حول الموضوع الأول، أزعم أن الظروف الأكثر من مصيرية، كالتي تمر بها المنطقة العربية اليوم، تستوجب حقاً وجود قوى سياسية حاكمة في يديها بعض زمام المبادرة. في حين أن ما نراه يوحي بوجود فئتين من القوى الحاكمة العربية: الفئة الأولى تضم الحكام المهددين بأزمات داخلية جدية ... سياسية أو طائفية أو «انفصالية» تقسيمية. والفئة الثانية تضم حكاما مرتاحين داخلياً لكنهم يواجهون تحديات إقليمية خطيرة للغاية تهدد بلدانهم ومصالحها الأوسع.

من الطبيعي أن الأزمات الداخلية الناشبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة والعراق ولبنان ... والسودان أيضاً ـ على اعتبار أن أزمة دارفور أزمة سودانية اساساً ـ على صلة مباشرة بشرعية التمثيل الشعبي في هذه الدول.

ولقد كان طريفاً بالفعل أن تبادر الأكثرية البرلمانية في لبنان الى استباق توجه رئيس الجمهورية اللبناني إميل لحود إلى الخرطوم ببيان يشكك في شرعية تمثيله بحجة أن تمديد ولايته جاء عبر الإكراه (إكراه النواب). فبجانب عنصر الطرافة كان ثمة «طيبة» في بيان التشكيك هذا، ذلك أن موقعيه نسوا أو تناسوا أن معظم الرؤساء العرب «المنتخبين ديمقراطياً» ممدّد لهم مراراً بأكثريات أقلها 80% بل معظمها يتراوح بين الـ86 والـ99%. كما فاتهم أن هؤلاء الرؤساء الميامين ـ وكلهم إما من الجنرالات أو ورثة الجنرالات ـ يشبهون كثيراً جنرالات لبنان الذين يأنفون من «الأكثريات المؤقتة» ويفضلونها «أكثريات دائمة»، هي تلك التي توصف في العالم المتحضر بـ«الديكتاتوريات».

في لبنان «أزمة حكم» جدية لا لأن البلد منقسم حول قضايا خلافية استراتيجية فحسب، بل لأن النفاق السياسي والاصطفافات الكيدية العابرة عناصر تمنع امكانية البحث الناجع في أي حل.

وفي العراق بدوره أجريت انتخابات عامة فاز فيها من فاز وخسر من خسر، ولكن كحال لبنان ثمة من يرفض لب الديمقراطية ويتمسك بقشورها. يرفض التفاهم، ويصر على الامتيازات، ويلعب على الهواجس، و«يشخصن» النزاعات.

وفي الأراضي الفلسطينية يبدو الوضع المحسوم اقتراعاً بعد الانتخابات العامة ... بمستوى إشكالية مرحلة ما قبل الانتخابات وشللها وعجزها. ولئن كان مفهوماً استمرار تناقض الخطاب السياسي الرفضي الذي أكسب حركة «حماس» الانتخابات مع واقع التزامات المغبون الذي تعيشه السلطة الفلسطينية، فهل استنفدت كل خيارات الحوار الداخلي الفلسطيني؟ ولماذا استمرار حالة التفتت؟ لماذا سقط خيار «حكومة الوحدة الوطنية» التي كان يمكن أن تكون مرحلة انتقالية لترتيب استيعاب التناقض الحاصل؟

هذا حال السلطات المأزومة داخلياً ...

ولكن في السياسة الواقعية لا تعيش الدول في عزلة عن العالم حتى لو اختارت ذلك. وحتماً لا تختار الدول جيرانها. ومن سوء طالع العالم العربي ـ وبالذات مشرقه ـ أنه غارق في الهموم الإقليمية التي يبدو أنه أضحى عاجزاً عن الإفلات منها. وهي تبدأ من تداعيات الصراع العربي الإسرائيلي، وتمر عبر الأزمة الكردية (التي تطاول ألسنة لهبها العراق وسورية وتركيا وإيران)، فالمواجهة النووية بين واشنطن وطهران، وحرب جورج بوش على «الإرهاب»، وأمن الخليج في ظل هذه المواجهة، ثم احتقانات التأزم المذهبي الذي يعتمل تارة علناً وطوراً في الخفاء على امتداد المنطقة الشمالية للمشرق العربي، وهو التأزم الذي أفرز مصطلح «الهلال الشيعي».

خطورة الأبعاد الإقليمية للأزمات التي تنخر جسم العالم العربي وتهدد بتفجيره هي التي حدت بالقوى العربية المسؤولة إلى التحرك بسرعة لاحتواء ما يمكن احتواؤه ومعالجة ما تتيسر معالجته،

غير أن الاحتواء والمعالجة ممكنان فقط عندما يتوفر الوعي وروح المسؤولية. عندما يدرك اللاعبون الصغار أنهم في مغامراتهم دخلوا حلبة أكبر منهم بكثير، وأن الحسابات المغلوطة ستكون في ظل اختلال المعادلات الدولية مجلبة لمزيد من المشاكل.

إن الإخفاق الأميركي في العراق، الذي كان بالنسبة لكثرة من العقلاء متوقعاً، لا يلغي عنصر الخطورة لأن المقاربة الأميركية لأزمات المنطقة ككل ما زالت خاطئة. وهي ستظل تعاني لأن منطقها يستند إلى ديمومة التفوق الاستراتيجي الإسرائيلي.

فبدايةً، إسرائيل ـ حكومة وشعباً ـ عاجزة عن اتخاذ قرار يساعد على تأسيس سلام حقيقي قابل للحياة. وإذا كانت استطلاعات الرأي واستبيانات رغبات الناخب الإسرائيلي معبراً صادقاً عن مشاعر الإسرائيليين واستعدادهم للتعايش مع جيرانهم (راجع «الشرق الأوسط» ـ عدد الخميس 23 مارس 2006)، فإن كل الكلام عن سلام آت مجرد أضغاث أحلام ... فغالبية الناخبين الإسرائيليين تفضل طروحات التطرف والعنصرية ولا تخجل من فكرة «الترانسفير» (التهجير).

ثانياً، التجربة العراقية أثبتت استحالة ترتيب وضع ما إذا كانت الاستراتيجية مبهمة أو مؤجلة أو «رهن المزاد». ففي واشنطن قبل مارس (آذار) 2003 كان هناك سباق مستتر بين أولويات كل من «لوبي النفط» و«لوبي السلاح» و«لوبي إسرائيل» ... وغيرها. وفي نهاية الأمر ما عاد حتى الإعلام الأميركي الرصين واثقاً من وجود استراتيجية متجانسة، وبخاصة أين تقف الولايات المتحدة في المعركة التي فتحتها في العراق بين الشيعة والسنة، وما هي مغبة إدخال إيران لاعباً يتحكم بمصير العراق.

ثالثاً، الحرب على «الإرهاب» والدفع باتجاه «الديمقراطية» مشروعان طموحان جداً ... لكنهما ليسا بالضرورة متوافقين. بل على العكس، إذ بينت الانتخابات الفلسطينية انهما على تنافر مباشر. ولعل السبب أن هذين الشعارين الإيجابيين يفتقران إلى الصدقية القائمة على التجربة المحسوسة. فسوء تعريف «الإرهاب» وانتقائيته أضرا بخطط مكافحته، تماماً كما أدى الترويج لـ«ديمقراطية» ذات لون واحد إلى إحراج الديمقراطيين الحقيقيين على امتداد العالم العربي.

هذا غيض من فيض لخطورة التحديات التي تواجه العالم العربي، فهل القمة في مستواها.

الجواب البديهي، مع الأسف، ...لا.