عبد الرحمن بن أحمد السديري .. الذي أحب الشعر والسياسة .. والاخضرار

TT

اراد له القدر، منذ شهر شوال 1410هـ ابريل 1991م، ان يبقى فاقد الوعي، طريح الفراش، تحت رقابة الاجهزة الطبية، تغذي عروقه، وتنظم نبضات قلبه، فلا هو الذي ارتاح، ولا هو الذي فتح عينيه، كي تقر بالمحيطين بحبهم حوله، ويرى كيف تحولت الحياة طيلة فترة مرضه الاخير.

وفي الوقت الذي يتعذر على كاتب مراقب مثل محرر هذه الاسطر، ان يكتب بعجلة عن انسان لم يجالسه، او يعش قريبا منه، لكن زمالة ابنه الاوسط (د. زياد) في مجلس الشورى، وصداقة اخوته، قد اتاحت لي فرصة قراءة بعض صفحات سيرته، والتعرف على منهجه وتفكيره، وسماع شيء من شعره، وزيارة معشوقتيه (الجوف والغاط)، ومتابعة نشاط مؤسسته الخيرية، والتنزه في مزرعته (الفاخرة)، وتذوق انتاجها من التمر الفاخر، والتجول مشيا على الاقدام في المناطق المحيطة بالغاط من سهل الحمادة ونفوذ الثويرات وعروقه، الى المستوى غربا.

ان اسرة السديري المعروفة في محافظة الغاط (باقليم سدير التابع لمنطقة الرياض)، نزحت منذ قرون من جنوبي نجد، وقد اشتهر منها جد معظم افرادها الحاليين: احمد السديري (الاول) وهو جد الملك عبد العزيز لوالدته، وقد تولى امارة الاحساء في عهد الامام تركي بن عبد الله آل سعود، مؤسس الدولة السعودية الثانية، ثم اوكل اليه امارة البريمي (وساحل عمان) في حدود عام 1853. وتذكر بعض كتب التاريخ ان صلة هذه العائلة بالاسرة المالكة السعودية ربما كانت قد بدأت منذ اواخر الدولة السعودية الاولى.

كما اشتهر من هذه العائلة حفيده احمد السديري (الثاني) وهو والد الامير عبد الرحمن (شخصية هذا الموضوع) وجد الملك فهد واخوانه لوالدتهم، وقد اسند اليه الملك عبد العزيز مسؤوليات عدة في الوشم والقصيم والافلاج والغاط، وتوفي عام 1354هـ 1934، وخلف من الابناء ثمانية وهم: تركي وعبد العزيز وخالد ومحمد وعبد الرحمن ومساعد وسليمان ويندر، ومن البنات خمس عشرة، من بينهن حصة بنت احمد السديري والدة الامير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن والملك فهد واشقائه وشقيقاتهم.

ولد عبد الرحمن السديري في بلدة الغاط عام 1328 هـ ـ 1918، وتلقى تعليمه في الكتاتيب، على يد عدد من مشايخ بلدته، والوافدين اليها من اقاليم مجاورة، ثم سعى لتطوير نفسه في زمن لم يكن يوجد في نجد اي لون من الوان التعليم الحديث (حتى منتصف الخمسينيات الهجرية الثلاثينيات الميلادية).

لكنه وقد نشأ ـ شأنه في ذلك شأن كل اخوانه السبعة ـ في بيت منهمك مع المؤسس الراحل (الملك عبد العزيز) في جهوده المظفرة لتوطيد اركان الدولة الفتية وتأمين اسباب الامن في ارجائها، وجد في بيئة اسرته المعروفة بالفروسية والادب والانفتاح الفكري تعويضا عن السير في مناهج الدراسة النظامية المحرومة منها نجد اساسا.

وفي الخامس من شهر رمضان المبارك 1326هـ 5/9/1943 (اي خلال عهد الملك عبد العزيز) عُين اميرا لمنطقة الجوف الواقعة شمال غربي المملكة العربية السعودية، وكان عمره قد بلغ الرابعة والعشرين، واستمر في هذا المنصب ثمانية واربعين عاما، حتى تقاعد في 1/7/1410هـ ـ 27/1/1990، وقد شارك في بداية عمله بنشاط سياسي وامني استمر نحو سبع سنوات، يتعلق بمفاوضات الحدود الشمالية الغربية مع جيرانها وقد اقام له اهالي الجوف مساء يوم الخميس 29/10/1410هـ (24/5/1990) حفلا تكريميا حضره الامير احمد بن عبد العزيز، نائب وزير الداخلية.

لكن القدر لم يمهله طويلا، بعد ترك العمل، ليستمتع براحة بعيدة عن التزامات الوظيفة، وليسعد بأوقات يقضيها قرب اولاده واحفاده، فعاجله المرض ليفرض عليه اقامة الزامية دامت خمسة عشر عاما. وقد انجب من الانباء خمسة هم: فيصل وسلطان ود. زياد وعبد العزيز ود. سلمان، ومن البنات ثمان هن: دليل وحصة وجهير ولطيفة وشيخة وجواهر ومشاعل وريم.

ان من الصعب ان يوجز التاريخ في سطور، كما ان المقام ايضا لا يتسع للاطالة، فنكتفي بلمحات موجزة من حياته:

الاولى:

لم يشتهر عبد الرحمن السديري كثيرا بين الناس بشاعريته، لكن من يتأمل في ديوانه (القصائد) المطبوع عام 1403هـ ـ 1983 سيجد انه امام شعر رقيق الكلمات، جزل الاسلوب، عميق المعاني، وان ديوانه لم يأخذ نصيبه الجدير بهه من التوزيع والدراسة النقدية، وربما كان عزوف الشاعر عن نشر انتاجه في حينه قد اسهم في عدم شهرته.

على ان الديوان قد اعد بمنهجية عالية الجودة وهوامش مستوفية، وقدم له ابنه (د. زياد) بمقدمة حلل فيها شعر والده، وضمنها دراسة عن الشعر النبطي، وعن الاغراض الشعرية التي طرقها، والمرجو، بالمنهج نفسه، ان يسعى لاعادة اصداره لاضافة كل ما جد عليه من قصائد او مساجلات، مع استدراك ما قد يكون لوحظ عليه من تصويبات.

وقد تضمن الديوان نحو مائة قصيدة، صُنفت في خمسة فصول هي: الشوارد، والوجدانيات، والغزل، والرثائيات، والعرضات، مع فصل اضافي خصص للقصائد المتبادلة (الردود)، وقد قامت مؤسسة عبد الرحمن السديري الخيرية بنشره، وخصصت ريعه للاهداف الخيرية.

ويمكن في هذا المقام ان يُستشهد بأبيات من (وصيته) التي يقول فيها موجها حديثه الى ابنه الاكبر فيصل (وهي من 9 ابيات):

لا مت في راس الشعيب ادفنوني

بالرجم فوق المالحة والبديعة

اضفوا عليّ ترابها واحفظوني

وحطوا على قبري حصاة رفيعة

أنا من الدنيا خلصت اعذروني

لي جانب الله عن حياة وضيعة

ويقصد بالبيت الاول مزرعة له اخرى على ضفاف شعبي الغاط .

الثانية:

ان الامير عبدالرحمن السديري، الذي امضى كما سلف، قرابة نصف قرن اميرا على منطقة الجوف، قد نشأت بينه وبيين المنطقة حميمية خاصة، بلغ بها الامر انه لا يكاد يغيب عنها عدة ايام، حتى يبث لهفته نحوها شعرا للعودة اليها، ثم يبادله الاهالي تحاياه بأحسن منها.

ولقد صور احد الادباء ـ وهو د. احمد اللهيب ـ حالة المنطقة مع اميرها، بأنها حالة فريدة من الالفة والتآخي، وتبادل المساجلات المليئة بالود والمشاعر النبيلة من الطرفين في وضع استطاع من خلاله ان ينتقل من قصر الامارة ولغة السطوة الى عطف الابوة وشفقتها، وان المجتمعات في ازمة من هذا النوع، وقد تضمن ديوانه فصلا مستقلا لهذه المساجلات اطلق عليه اسم «الجوفيات».

الثالثة:

انه كان من اوائل من سعى الى تجسد رغبته في تنمية منطقته ثقافيا بشكل مؤسسي باق للاجيال، فانشأ عام 1403هـ ـ 1983 م في اثناء توليه الامارة مؤسسة خيرية وقفية تحمل اسمه، وتعمل على نشر الوعي المعرفي والثقافة العامة وخدمة التراث الشعبي النابع من المنطقة، وكان من ابرز انجازات هذه المؤسسة مكتبة عامة عامرة للرجال واخرى للنساء (دار الجوف للعلوم).

ان هذه المكتبة التي كان قد اسس نواتها عام 1882هـ ـ 1962 ، لم تكن مكتبة تقليدية، بل دارا حقيقية للبحوث المتعلقة بتاريخ المنطقة وتراثها، وتدوين ما يتعلق بدراسات الرحالة والمستشرقين التي تحدثت عنها.

ولعل من ابرز انجازات هذه المؤسسة ايضا جامعا ومدارس ونزلا فندقيا بنيت على احدث الطرز المعمارية المستمدة من تراث المنطقة.

الرابعة:

وكان عبد الرحمن السديري من امراء المناطق الذين حرصوا على اقامة مزرعة نموذجية، تكون مدرسة تطبيقية تخدم التجارب الزراعية المناسبة لبيئة الجوف. وقد اردف انشاء هذه المزرعة باقامة مسابقة محكمة للمزارعين منذ عام 1385هـ ـ 1965، تُقدم فيها الجوائز للافضل في كل جوانب الانتاج الزراعي وتنظيم البساتين والابتكارات الخاصة بالمهنة.

ولم يتوقف تفكيره عن الاهتمام بأمور الزراعة بل شملت قضايا تنموية اجتماعية اوسع، مثل مشروع توطين البادية في وادي السرحان (شمالي البلاد)، واهتم باقامة سباقات الهجن التي كان لمنطقة الجوف اسبقية التفكير فيها، مع ما يرافقها من انشطة تراثية، كمعارض السجاد والمنسوجات التي تتم بأيد نسائية محلية، فأصبحت تلك الانشطة من اهم المهرجانات السنوية التي يترقبها الاهالي وتجتذب اليها السائحين والزوار.

ومن الجدير بالذكر، انه قد دون تاريخ منطقة الجوف (ودومة الجندل)، التي تعد احدى ابرز مخلاازن الاثار في المملكة، وتضم معالم تاريخية اسلامية وثمودية ونبطية وشواهد حضارية تمثل امتدادا لاثار البتراء ومدائن صالح ووالدي النيل وفلسطين، فألف كتابا توثيقيا بعنوان: الجوف: وادي النفاخ، صدر عام 1406هـ ـ 1986، وتمت ترجمته الى اللغة الانجليزية مع تخصيص ريعه للاهداف الخيرية، التي انشئت المؤسسة من اجلها، وقد صدرت الطبعة الثانية (المزيدة والمنقحة) عام 1426هـ ـ 2005.

وكانت جريدة «الشرق الاوسط» في عددها الصادر يوم 2/8/1982، قد استعرضت ابرز محتويات هذا الكتاب، كما تطرق اليه كتّاب اخرون في الصحف السعودية المحلية.

لقد تطرقت مراجع عدة الى ذكر الامير عبد الرحمن بن احمد بن محمد السديري، ومن بينها كتب بعض الرحالة المعاصرين الاجانب الذين مروا بالشمال الغربي من الجزيرة العربية، مما قامت مؤسسته الخيرية برصد كتاباتهم الجغرافية التاريخية.

وهكذا، فان استعراضا سريعا لسيرة الامير عبد الرحمن بن احمد السديري، اخر اخوال خادم الحرمين الشريفين الملك فهد واشقائه وشقيقاته، يكشف عن كثير من اوجه التشابه بينه وبين اخوته السبعة ابناء احمد السديري، وبخاصة في النشأة والمسؤليات والشاعرية، وامور اخرى.

رحمه الله رحمة واسعة

* اعلامي سعودي