الفساد.. إلى أين يأخذنا..؟

TT

لم تجد وزيرة الثقافة البريطانية بداً من انفصالها عن زوجها المتهم بقبض رشوة تلقاها من رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني، نظير إفادة أدلى بها أمام محكمة في قضية ضد الرئيس عام1997.

وبالرغم من تبرئة توني بلير للوزيرة وتأكيد سكرتير مجلس الوزراء البريطاني على عدم معرفتها بالأمر، بيد أن وسائل الإعلام التي تناقلت الخبر بتاريخ الخامس من الشهر الجاري، لم تقتنع بهذه البراءة تماماً، وإنما وصلت في استنتاجها إلى أن الانفصال محاولة يائسة لإنقاذ مستقبل الوزيرة السياسي، الذي بات معروفاً بخروجها من الوزارة، فالقاعدة التي قيل إن بلير طبقها على حلفائه وأصدقائه المقربين في الحكومة، هي «الإقالة» كمصير لكل من بقيت أخباره تحوم حول قضية مثيرة للجدل طيلة 11 يوماً.

تندرج هذه الحادثة تحت تعريف مفهوم الفساد، ومع أن زوج الوزيرة، كان محامياً غير أن حقيقة مهنته لا تخوله قبول 344 ألف جنيه إسترليني، والالتفاف حول المسألة وتبسيطها إلى مجرد «هدية»، فإن كان صمت الزوجة على اطلاع باختراق زوجها غير المشروع، فهي غير جديرة بالبقاء في منصبها، وإن لم تكن بالمتواطئة فيكفي ارتباط اسمها بقضايا لا يسامح عليها المجتمع الغربي، إن وقع أحدهم في شراكه، فكم من صفقات تعقد! وكم من مصالح تمرر! ولكن العبرة تظل بمن يضبط ويقدم للرأي العام، والحق أنه موضوع يغري بالتبحر فيه والبحث في آثاره، فإلى ماذا يعزى الفساد، أو ممارسة النفوذ العام من أجل كسب خاص؟ هل يعود بأسبابه إلى عادات ثقافية، تتراوح بين علاقة صاحب المؤسسة أو المنصب بعملائه وأصدقائه وأفراد عائلته، وبين طمعه الشخصي! أو أنه نتيجة حتمية لترتيبات سياسية وإدارية تؤمن باحتكار القوة، وإطلاق الحرية بعيداً عن المحاسبة. من منطقي القول إن مصالح المرء مع قومه وأهل معرفته ما كان لها التوسع على حساب الأمانة الوظيفية، لو لم يكن النظام العام السائد الذي يحكمها يسمح بالتجاوزات، إنه التساهل المروري الذي عادة ما يتأرجح تقييمه بين من يعتقد بأنه سلبي محض، وبين من يراه وسيلة لإعادة توزيع الدخل، أو لمكافأة من لم تقدره الدولة بما يستحق.

فماذا عن الواقعية؟ إنها ترى أن الإنسان الذي يتقلد منصباً يميل إلى الاستفادة من موقعه برغم نزاهته، فمجرد مساهمته في تزكية أحدهم لشغل وظيفة ما وهو على رأس العمل لا يجوز اعتبارها بمعزل عن مميزات كرسيه، ومع هذا نقول حين يجتهد المرء في عمله، ولا يغفل تحكيم ضميره فلا ضير فيما يراه حسناً، وإن بقيت رؤياه دائماً نسبية وقاصرة، ولكن عزاء الإنسان أنه لم يبع وطنه أثناء معادلته، فأين يكمن الخلل إذن؟ إنه في استغلال المكان والمكانة في إعلاء من لا يلزم، وتهميش المؤهل وإحباطه، وعندما توزن الأمور بـ«الواسطة» و«النفوذ»، فإلى أين يلجأ من كان نصيبه منهما أقل من غيره! إنه الخطر الذي تدق ساعته مع غربة المرء في أحضان بلاده، فحين تختل المعايير، يبدأ الضعف الإنساني يستشري كالوباء في جسم صاحبه، فلا يعود يأبه معه بالولاء لترابه، ومن كان هذا حاله لا يصعب على العيون الراصدة بلوغه وتجنيده باسم سلطة دينية أو سياسية.. عدالة اجتماعية أو رفاهية، غير أن ما أصبح لافتاً للنظر بشأن مشكلة الفساد، أنها باتت شبه معدية ومنذ الثمانينات، مما دفع بالحكومات والوكالات الدولية إلى مبادرات مكافحتها بشكل أوضح وأشمل، فالمسألة قد خرجت عن النطاق المحلي إلى الحدود المتخطية للأوطان، حيث أصبح الفساد أحد أدوات الجريمة المنظمة، ولا يقصد هنا بأن جميع أشكال الفساد لها صلة بهذا النوع من الجرائم، ولكنه الجدال بأن المنظمات الإجرامية، إنما تعتمد على تفشي الفساد في تحديها للقوانين، والتي عادة ما تهتم باختيار المؤسسات المالية، التي تدرس مسبقاً إمكانية شراء نفوس مسؤوليها كجسر لتغليف أغراضها المريبة.

تجنيد المنفّذين بعد التنقيب في تاريخهم، والتثبّت من زعزعة وفائهم لأوطانهم، هما سياسة المنظمات الإجرامية، فمن بين أهدافها المحددة بالفساد يأتي «تحييد» سلطات مراقبة الحدود، وكذا باقي أجهزة الدولة، بما في ذلك قطاع الشرطة والعسكريون، من أجل إضعاف جهود السيطرة والمتابعة، والنظام القضائي لضمان العقوبات المخففة، والسلطة التشريعية للحصول على الحماية والدعم، وعليه، فالفساد قد يتعدى التحييد في بعض الحالات، إلى نظام يأسر الدولة نفسها ويهدد كيانها بأكمله، ولا تزدهر المنظمات الإجرامية في بيئة قدر التحرك في دولة غير متماسكة، فتبذل قصارى جهدها حتى تبقيها على ضعفها الذي يوفر لها ملاذاً تستطيع عن طريقه توجيه شبكاتها المحلية والأخرى عابرة الحدود.

وهكذا يأخذنا الفساد إلى أعمق نقطة في هدم البناء الوطني، مع أن في تشخيص مرض السرطان منذ البدايات فمعالجته استئصالا لتكاثر نمو خلاياه أو الحد من انتشارها، فعندما شن البريطانيون حملتهم على زوج الوزيرة ولم ينهوها حتى بعد انفصالهما، هل يعني هذا أن بلادهم خلت من فسادها وأخطائها! أبداً، ولكن ما لا يدرك كله، لا يترك جله! فقضايا على هذه الشاكلة تطمئن الرأي العام وتشعر المسؤولين بأنهم ليسوا فوق القانون، أما أن يبقى من يبقى في منصبه مهما بلغت قفزاته الجريئة، فلا يعزل أو يطال وإن افتضح تورطه، فلا يتساوى سارق الملايين مطلقاً، بسارق الرغيف والدواء، على الرغم من أن مبدأ السرقة واحد، إلا أن الثاني غالباً ما يكون نتيجة اجتماعية لجشع الأول أو لنقل من أكل عليه حقوقه، ثم أليس من مواصفات الدول الفطنة، التي تعرف كيف تمتص احتقان شعوبها أن تستبدل التعثر والإهمال وتلطيخ الاسم، بالكفاءات ومنح الفرص! فبماذا تصنّف دولنا العربية في ضوء ذلك؟