الديمقراطية والمشاركة والأحزاب

TT

ركز بعض اساتذة السياسة في نظرتهم للديمقراطية على المشاركة، لأن المشاركة ـ كما يرون ـ هي جوهر او اساس الديمقراطية. فحجر الاساس في الديمقراطية كطريقة في الحياة السياسية كما يذكر الفيلسوف جان دوي، هو مشاركة الافراد الناضجين في وضع القيم التي تنظم حياة الجماعة. والديمقراطية وفق هذه النظرة تعني مشاركة الافراد وقدرتهم على التأثير في صنع السياسات العامة في دولهم. ولا جدال في ان جميع النظريات الديمقراطية تؤكد اهمية عنصر المشاركة في الانظمة الديمقراطية. ولا خلاف في ان المشاركة هي جوهر واساس الديمقراطية، ولكن الخلاف ينشأ من اعتقاد بعض منظري الديمقراطية بأن المشاركة الفعالة الحقيقية لا توجد الا ضمن النموذج الديمقراطي الغربي من خلال الاحزاب السياسية. ويرد على ذلك رونالد بيناك ويوضح وجود بعض المفكرين الذين يرون بأن المشاركة المؤثرة هي اوسع بكثير من ان تكون مقصورة على الانظمة الديمقراطية الغربية. صحيح ان المشاركة توجد في قلب النظرية الديمقراطية ـ كما يقول استاذ السياسة جوزيف لا بالمبارا ـ الا ان المشاركة الفعالة توجد ايضا خارج الانظمة الديمقراطية وتأخذ انماطا مختلفة. ولكن غالبية الكتابات الديمقراطية المعاصرة اتجهت بشكل غير صحيح الى التركيز على المشاركة كما تحدث ضمن اطار المؤسسات الديمقراطية الغربية واهملت نماذج المشاركة الاخرى.

لقد وجدت بعض الدراسات ان الاتصال الشخصي بالمسؤولين وتقديم المطالب لهم ـ وهو نمط من انماط المشاركة المعروفة في بعض الدول النامية ـ هو اكثر تأثيرا على صنع السياسة العامة من الانتخابات الديمقراطية. فالانتخابات التي تؤدي الى ايصال حزب او مجموعة احزاب الى السلطة لا تكفي وحدها للتأثير في موقف وقرارات الحزب داخل السلطة والتي تختلف كثيرا عن مواقفه ووعوده خارج السلطة. ولمعالجة هذه المشكلة فلقد تطورت في امريكا واوروبا قنوات عديدة للاتصال الشخصي بين اعضاء البرلمانات والناخبين. ولكن نتج عن ذلك ان جماعات المصالح وليس الافراد كانت هي المستفيد الاكبر من هذه الصلة ذات التأثير القوي الفعلي على صنع السياسة العامة. ولقد اوضح هنري كاريل هذه النقطة في كتابه «انحدار التعددية الامريكية» الذي اوضح فيه ان الديمقراطية الامريكية قد اصبحت ديمقراطية جماعات المصالح وليست ديمقراطية الشعب وقال بان المؤسسات التجارية والنقابات واتحادات الاطباء والمحامين وجماعات المزارعين هي التي تصنع السياسة العامة الامريكية بالشكل الذي يخدم مصالحها. واذكر انني اثناء دراستي في الولايات المتحدة الامريكية وفي اول محاضرة لي في مادة الحكومة الامريكية سمعت استاذ المادة يقول: ان اول ما سوف اعلمكم اياه في هذه المادة هو ان الحكومة الامريكية هي حكومة الشعب تمثل الشعب وتعمل لاجل الشعب. هذا من الناحية النظرية ولكنكم اذا انتهيتم من دراسة المادة بما تتضمنه من امثلة من واقع السياسة الامريكية فسوف تجدون ان الحكومة الامريكية هي حكومة الاقلية تمثل الاقلية وتعمل لاجل الاقلية.

فقلت بصوت منخفض ماذا يقول هذا الاستاذ؟ فسمعني زميل دراسة وقال: انتظر حتى تنتهي المادة وقد تتعلم العجائب التي قد تخيب املك في امريكا. ولقد تضمنت الكتب التي قررها علينا استاذ تلك المادة كتاب مايكل بارني «ديمقراطية لاجل القلة» Democracy for The Few وهو كتاب يبرز الفرق والاختلاف بين الاسس الدستورية والنظرية لما يفترض ان يكون عليه النظام الامريكي وما هو قائم فعلا في هذا النظام. ويوضح توماس داي وهارمون زيغلر في كتابهما «سخرية الديمقراطية» The lrony of Democracy قوة الصفوة الامريكية وقدرتها في السيطرة على المؤسسات الديمقراطية وعلى التحكم في مصادر الدولة وفي قرارات السياسة العامة وتوجيه الرأي العام بالشكل الذي يخدم مصالحها. وهناك في الحقيقة مجموعة كبيرة من الكتب المهمة التي صدرت في الغرب مثل كتاب مايكل كروز وصامويل هنتنغتون «ازمة الديمقراطية الغربية» The Crisis of Western Democracy والتي تتضمن دراسات موثقة عن اشكاليات الديمقراطية الغربية في امريكا واوربا وفشلها في معالجة بعض المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المهمة التي تواجه المجتمعات الغربية. وتتضمن ازمة الديمقراطية الغربية ايضا اشكاليات تتعلق بجوهر الديمقراطية نفسها، وذلك في الحالات التي تكون فيها بعض المواقف والممارسات ضمن النموذج الديمقراطي الغربي معارضة للاسس والمبادئ الديمقراطية. فعلى الرغم من ان حكومة النمسا المحافظة هي حكومة ديمقراطية وصلت الى الحكم بالوسائل الديمقراطية، الا ان بعض مواقفها في سياسات النمسا جعلت تيارات ومؤسسات سياسية عديدة في اوربا تعارضها بالرغم من شرعيتها وديمقراطية وصولها للسلطة اي انها لم تكن حرة في اتخاذ الموقف السياسي الذي تريده وذلك بصرف النظر عن طبيعة هذا الموقف.

ان هدفي من اثارة هذه النقاط في هذه المقالة والمقالتين اللتين سبقتاها هو ليس الهجوم على الديمقراطية، لكن محاولة التنبيه لضرورة فهمها بشكل افضل في هذه الفترة التاريخية الحاسمة التي تتجه فيها الدول النامية نحو الديمقراطية. فاذا كانت الديمقراطيات الغربية تعاني من مشاكل وتحديات عديدة فكيف تجعلها الدول النامية قدوة تقتدي بها في حياتها السياسية هكذا بشكل مطلق، وتغمض عينها عن مشاكلها وتهمل الادبيات التي تنقدها. واضافة الى ادراكنا لمشاكل الديمقراطيات الغربية ينبغي ان ندرس ايضا الاختلاف الواضح بين تجربة تطور الديمقراطية في الدول الغربية وتجربة التحول الديمقراطي المعاصرة في الدول النامية. فنظرة مقارنة بسيطة بين كلا التجربتين توضح الفروقات الجوهرية الثلاثة التالية. ـ لقد اعتمد تطور الديمقراطية في امريكا واوربا على اسس فكرية سبقت تطور المؤسسات الديمقراطية في هذه الدول. ولكن عملية التحول الديمقراطي في الدول النامية التي بدأت بشكل واسع في اعقاب انتهاء الحرب الباردة لم تعتمد على ارضية فكرية للديمقراطية في هذه الدول.

ـ لقد جاء التطور الديمقراطي في الدول الغربية بعد توفر بعض العوامل التي يسميها البعض ـ كما يوضح رونالد بيناك ـ بمتطلبات الديمقراطية وتتضمن عوامل سياسية خاصة بتطور الذاتية او الهوية الوطنية للدولة وعوامل اقتصادية واجتماعية وعوامل ثقافية. واما التحول الديمقراطي المعاصر في دول الجنوب فلقد بدأ قبل نضوج بعض متطلبات الديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية المهمة.

ـ لقد مرت الديمقراطيات الغربية بمراحل تاريخية طويلة قبل ان تصل الى وضع نموذجها الحالي. فلقد كانت الانتخابات في اوربا في بدايتها مقصورة على المتعلمين ودافعي الضرائب واصحاب الاملاك. وعلى الرغم من ان الديمقراطية السويسرية تعود الى النصف الاول من القرن التاسع عشر، فلم تتمكن النساء في سويسرا من المشاركة في الانتخابات الا في بداية الخمسينات الميلادية في القرن العشرين. وكذلك الامر في امريكا حيث بقي الامريكيون السود محرومين من المشاركة في الانتخابات لسنوات طويلة بعد تمتع الامريكيين البيض بحق الانتخابات.

ولقد شهدت دساتير الدول الديمقراطية الغربية مجموعة من التعديلات المهمة خلال القرن العشرين وذلك بهدف تطوير عملية مسارها وتقدمها الديمقراطي. ولكن الدول النامية تنقل الان النموذج الغربي للديمقراطية في وضعه الحالي. واذا كان النموذج الغربي وبعد التطورات المرحلية التي طرأت عليه ما زال يواجه حتى الآن عقبات اساسية في الدول الاصلية التي انتجته فكيف نتوقع نجاحه في الدول النامية التي تفتقر الى تجربة تاريخية لهذا النموذج المنقول من الغرب.

لقد اشرت سابقا الى ندوة التحول الديمقراطي في دول الجنوب التي حضرتها في الصيف الماضي. واذكر الآن ان شابا عربيا متحمسا للديمقراطية قدم ورقة عن اهمية الاحزاب في الممارسة الديمقراطية التي لا يمكن ان تكون ناجحة وفعالة في الدول النامية ـ من وجهة نظره ـ الا من خلال نشاطات الاحزاب السياسية. ولقد حظيت ورقة الشاب العربي بتأييد كبير من المشاركين في الندوة من المثقفين العرب وغيرهم. ولكنني اعتقد انه لا ينبغي الجزم بربط نجاح الديمقراطية في الدول النامية بوجود الاحزاب السياسية في هذه الدول هكذا بشكل مطلق. فالاحزاب السياسية ليست بظاهرة جديدة في دول الجنوب ولقد عملت احيانا في اجواء شبه تنافسية فماذا حققت هذه الاحزاب في الدول النامية؟ لم تحقق الكثير. وكانت في امثلة كثيرة عنصر عدم استقرار اكثر منها عنصرا للاستقرار، وسببا في التجزئة الوطنية للامة او لافراد الشعب الواحد وخضعت لمؤثرات الاعتبارات الشللية والايديولوجية والانقسامات الطائفية والعرقية بالشكل الذي اضر بالمصالح الوطنية. وان ادبيات التنمية السياسية وادبيات السياسة المقارنة التي تطورت في امريكا واوربا تضمنت دراسات عديدة عن مشاكل الاحزاب في الدول النامية وعن فشل تجاربها السياسية خاصة عند مقارنتها بالاحزاب السياسية في الدول الغربية. وهناك قول سياسي مشهور في امريكا اللاتينية مفاده ان كل ما يحتاج اليه المرء لتأسيس حزب سياسي هو وجود رئيس للحزب ونائب له وامين الصندوق وشعار رسمي للحزب. ولقد خاطب امير الشعراء احمد شوقي الاحزاب السياسية المصرية مرة وسألها قائلا:

الى ما الخلف بينكم إلا ما؟

وهذه الضجة الكبرى علا ما؟

وفي ما يكيد بعضكم لبعض؟

وتبدون العداوة والخصاما؟

وان مشاكل الاحزاب السياسية لا تقتصر في الحقيقة على احزاب الدول النامية، ولكنها تمتد لتشمل الاحزاب السياسية في الدول الديمقراطية الغربية، وان الادبيات السياسية المعنية بالاحزاب السياسية في هذه الدول تشتمل على مجموعة من الدراسات التي عالجت مشاكل الاحزاب في الديمقراطية الغربية واهتمت بابراز الفجوة بين وعودها السياسية والتزامها بتنفيذ تلك الوعود. ولقد نتج عن تعدد مشاكل الاحزاب السياسية سواء في الدول الديمقراطية او الدول النامية وجود ظاهرة يمكن ان نسميها بظاهرة عدم ثقة الانسان العادي بالاحزاب السياسية وبشعاراتها البراقة والبرامج التي تتبناها في حملاتها الانتخابية. وان الشعوب تقدم على انتخاب الاحزاب السياسية، كما اعتقد، لأنها موجودة في الساحة السياسية وليس لان لديها قناعات راسخة بأن الاحزاب تشكل البديل الافضل. ليس الهدف من طرح هذه الافكار هو القول بان الديمقراطية الغربية هي ديمقراطية قبيحة او سيئة. كلا، ولكن الغرض المرجو من طرحها هو اثارة بعض التساؤلات المهمة عن عملية نقل النموذج الديمقراطي الغربي الى الدول النامية، وان عدم تطبيق هذا النموذج في دول الجنوب لا يعني ان البديل هو حكم شمولي استبدادي سيئ. فهناك نماذج اخرى يمكن ان تحقق اهداف الديمقراطية او اهداف الحكم الصالح وتكون اكثر انسجاما من النموذج الغربي مع ظروف وخصائص مجتمعات الدول النامية.

* كاتب ومحلل سياسي سعودي