إدارة بوش تغضب الحلفاء وتسرّع خطوات الأقطاب

TT

لم يكمل بعد الرئيس الامريكي الجديد المائة يوم الاولى من ولايته كماجرت العادة لتتشكل معالم سياسته، ومن ثم يحكم العالم على مسار توجهاته بحسبانه رئيس الدولة الاقوى في العالم، وها هو في اقل من ثلاثة اشهر ما ترك حليفا او صديقا او خصما الا خدشه، او ازعجه او اغضبه باستثناء حكومة شارون مع انها الوحيدة التي كان من المفترض ان يلجم عدوانها المفرط على الفلسطينيين، لكنه على الارجح منحها الضوء الاخضر بعد ان خص رئيسها ليكون اول رئيس يزور البيت الابيض، وهو قد عاد في غاية الانتشاء يوزع في التصريحات هنا وهناك متنطعا بما نصح به الرئيس الامريكي من اتخاذ مواقف تأديبية وعدوانية ضد الدول العربية والسلطة الفلسطينية على وجه الخصوص على نحو ما هو معروف.

وما يهمنا في هذا السياق قوله: انه طلب من الرئيس الامريكي عدم دعوة الرئيس عرفات الى البيت الابيض لانه المحرض الاساسي على العنف، وحتى الآن لم تقدم دعوة لرئيس السلطة الفلسطينية لزيارة الولايات المتحدة، مما يعني انصياع ساكن البيت الابيض لطلب شارون وهو امر مؤسف ومحزن وغير مقبول من اي رئيس يحترم نفسه، ناهيك برئيس اكبر دولة في العالم كان المأمول فيه ان يتصف بشيء من الحيدة ويحتفظ ولو بقدر قليل من العدل. ومع ذلك لم يكتف اللوبي اليهودي بانصياع الرئيس الامريكي لتوجيهات شارون وانما زاد عليها فطالب باغلاق مكتب السلطة في امريكا وحجب العون المالي الذي تقدمه الادارة للسلطة الفلسطينية، وطبعا لن نندهش اذا فعل.. اولم يبعث برسالتين الى القمة العربية المنعقدة في الاردن الشهر الماضي مضمونهما يصب في هذا السياق؟ اولاهما استخدام حق الفيتو في مجلس الامن لمنع ارسال قوات مراقبة للاراضي الفلسطينية لحماية الفلسطينيين العزل من جرائم شارون والثانية الطلب من القمة ألا تتخذ قرارات متشددة بحق الحكومة الجديدة في اسرائيل واعطائها فرصة لبلورة سياستها. واكتفى العرب بالتعبير عن الاسف لاستخدام الفيتو وكان في ذلك اغراء لمزيد من الامتهان للكرامة العربية طالما المصالح الامريكية مصانة في حرز أمين! وبالرغم من ان اهم المصالح الامريكية تتجلى في البترول وان احدا لم يلوح باستخدامه ولو من باب التذكير، فإنها بدأت تتطاول على الدول المنتجة له، وحكم قاض فيدرالي في ولاية الاباما من منظور ان اوبك تتحكم في التجارة منتهكة قوانين مكافحة الاحتكار الامريكية، كما ان هناك مشروع قانون معروضا على الكونغرس الامريكي يسمح لوزارة العدل الامريكية وهيئة التجارة الفيدرالية باتخاذ اجراءات ضد دول اجنبية بما فيها الدول الاعضاء في منظمة اوبك بتهمة ممارسات تآمرية لتحديد الاسعار او مستوى انتاج المنتجات النفطية.. لقد رد الامين العام لاوبك ببيان جاء فيه «ان الحكم على المنظمة التي تعتبر الدول الاعضاء فيها ذات سيادة تعمل على الدفاع عن مصالحها المشتركة بانها هيئة تجارية بسيطة هو سخف ينتهك المبادئ القانونية الاساسية. وأحد هذه المبادئ التي تم الاعتراف بها في عديد من بيانات الامم المتحدة هو حق الدول في مواردها الطبيعية. فهل يمكن لمحكمة او لكونغرس في دولة عضو في الامم المتحدة تجاهل المبادئ التي اعلنتها الامم المتحدة نفسها؟» الاجابة نعم، هكذا تحاول امريكا ان تسوس العالم! في كل الاحوال، ما الذي يجعل قوانين الولايات المتحدة تسري على الدول الاخرى سواء في الاتجار او الاحتكار. لا ريب ان الولايات المتحدة تجاوزت كل الحدود وبحاجة الى مواقف بترولية اكثر صرامة من التي حدثت من قبل لتدرك مدى قوة وتأثير من يملكون هذه السلعة وتتعامل معهم من منطق القوة التي بأيديهم ولا سلطان لها عليهم. اننا الآن في عصر القوة الاقتصادية وهي العامل الرئيسي المحرك لكل ميزان، وعلينا ان تتحد كلمتنا لندرك كم نحن اقوياء وكم بوسعنا ان نعدل الميزان وخاصة في صراعنا مع اسرائيل.

ينبغي ان نتعلم من درس التجربة الاخيرة بين الصين والولايات المتحدة في ما يتعلق بطائرة التجسس التي هبطت قسرا في اقليم هاينان الصيني، وكيف تعاملت الصين مع الغطرسة الامريكية، وهي لا تزال تحتجز الطائرة وتنقب في كنز اسرارها وتطلب المزيد من المكاسب الامريكية وسوف تحقق الكثير مما تريد! ان العامل الاقتصادي يبدو هو المحرك الرئيسي، فعلى الرغم من ان صادرات الصين للولايات المتحدة تبلغ الآن مائة مليار دولار مقابل 16 مليارا لصالح امريكا الا ان عدد الصينيين يزيد على الامريكان بمليار انسان، وهذا سوف يسيل له لعاب امريكا، ولذلك فان كل معادلات التسوية مهما حمى وطيس الصراع تعود بالاساس الى ميزان الاقتصاد. من هنا استخدام كلا الجانبين ما لديه من اوراق وفي باله هذه المعادلة.. فمتى نتعلم نحن كيف نستخدم ثرواتنا الاستراتيجية وقوتنا الشرائية واموالنا المودعة للاستثمار؟... علينا ان نتذكر مقولة الرئيس الامريكي الجديد: انهم لن يتحركوا في الخارج الا وفقا للمصالح الامريكية ولحمايتها، فاين تكمن هذه المصالح قياسا بين العرب واسرائيل؟! وعلى ذكر المصالح الامريكية فإن الادارة الامريكية دخلت في خصومة مع الحلفاء والاصدقاء وغيرهم عندما رفض الرئيس الجديد معاهدة كيوتو عام 1997 الخاصة بخفض انبعاث الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، مما اثار عاصفة من الاحتجاجات في شتى انحاء العالم، خاصة في الاتحاد الاوروبي والجارة الاقرب كندا، حيث يعتزم التنقيب عن النفط في الاسكا في محمية طبيعية في القطب الشمالي مفضلا تغليب مصالح الصناعة الامريكية على البيئة العالمية، كما انزعج الاوروبيون وثارت مخاوفهم من المشروع الامريكي للدرع المضاد للصواريخ والذي شجبته موسكو وبكين ولم يسلم من انتقادات العديد من الدول الغربية الاعضاء في حلف الاطلنطي.

وبالنسبة لروسيا فان قائمة الازمات اعادت الى علاقات البلدين كل اجواء الحرب الباردة من جديد بدءا بحرب الجواسيس مرورا بدرع الصواريخ والى صفقة التسليح الروسي ـ الايراني، وصولا الى استقبال الخارجية الامريكية لشخصية قيادية في الحكومة الشيشانية مما أدى الى احتجاج موسكو. كذلك عقد مؤتمر في موسكو طالب بتحرير الفضاء من اي سلاح. وبما ان الادارة الامريكية الجديدة في سعيها الدؤوب لخلط الاوراق عمدت الى توتير العلاقات بين الكوريتين فان روسيا تبنت تجديد المساعي مع كوريا الشمالية لمواصلة ما بدأ من تحسن في علاقات البلدين على نقيض ما سعت اليه امريكا. وحتى اليابان لم تسلم علاقاتها الوطيدة مع امريكا من الاهتزاز سواء من جراء حادث الغواصة او المسائل الاقتصادية او زيادة توتر العلاقات بين الكوريتين.

لقد بدا في الافق ان روسيا اخذت تستلهم من التخبط الامريكي كل ما من شأنه ان يعينها على استرداد بعض ما افتقدته من مكانة وقدرة على تنافس القطب الآخر، فاقدمت على عقد صفقة السلاح مع ايران متجاهلة الاحتجاجات والضغوط الامريكية ومن بعد استقبالها للرئيس الايراني استقبلت الرئيس الجزائري في محاولة لاعادة الدفء لعلاقات البلدين، وخلال ايام سوف تستقبل الرئيس المصري حسني مبارك، وكذلك وزير الدفاع السعودي الامير سلطان، ووزير الخارجية السوري فاروق الشرع فضلا عن تقاربها اكثر فاكثر مع الاتحاد الاوروبي من جهة والصين والهند من جهة اخرى. ولا ينبغي ان ننسى اللفتة الكريمة من الرئيس بوتين والمتمثلة في رسالته الودية لمؤتمر القمة العربي اثناء انعقاده في الاردن.

صفوة القول ان اكثر من مركز قوى اخذ يتشكل في العالم لمواجهة غطرسة وهيمنة القطبية الاحادية. فاوروبا المتحصنة بوحدتها الاقتصادية منذ البداية اخذت تعد العدة لتشكيل قوات موحدة لمواجهة ما يعزز امن القارة ويحفظه عند الضرورة ودون الحاجة لهيمنة القوى الامريكية. وروسيا والصين والهند وربما ايران ايضا اخذت تتحرك باتجاه تكتل مواز يقف في وجه المد الامريكي.. هكذا تبدو ملامح من قسمات تشكيل عالم جديد متعدد الاقطاب آخذة في البروز كترياق مضاد للوصاية الامريكية بكل ما فيها من فوضى وعدم قدرة على توظيف امكاناتها لخلق قيادة رائدة ومتوازنة.

بالطبع هناك امثلة عديدة يمكن من خلالها استقراء تناقضات السياسة الامريكية وتخبطها. ولعل من ابرز الايات الدالة على ذلك ان الادارة السابقة كان همها الاول في مكافحة الارهاب، القاء القبض على اسامة بن لادن بأي ثمن وما ترتب على مطاردته من قصف للسودان وافغانستان ومطاردة ومحاصرة لحكومة طالبان، ورصد لملايين الدولارات عبر اعلانات عالمية اغراء لكل من يرشد عنه او عما يؤدي الى كشف تنظيمه الى آخره. الا ان الادارة الجديدة اعلنت فجأة انها ليست مشغولة بذات القدر بابن لادن ولا تضعه في سلم الاولويات، لماذا؟.. ربما لانها تفكر من جديد في توظيف افغانستان في حرب خفية مع روسيا في القوقاز وكذلك الهند وايران! معلوم ان الهند غاضبة على افغانستان ليس بسبب تحطيم تماثيل بوذا فحسب وانما بسبب باكستان وما تعتقده من تقديم دعم مشترك لمسلمي كشمير. وليس بخاف طبعا الخلاف الحاد بين طالبان وايران وما يستصحبه من دعم ايراني لخصوم حكومة طالبان. ولهذا لم يخف رئيس وزراء الهند هجومه على طالبان اثناء زيارته لطهران.. اما روسيا التي كانت حتى آخر ايام حكم كلينتون تأمل في تنسيق محكم بين البلدين لاجتثاث ما يوصف ببؤر تصدير الارهاب في افغانستان الى دول القوقاز، فقد ابدت اسفها واحتجاجها لكون الادارة الامريكية الجديدة استقبلت بترحاب وزير خارجية الشيشان مما يعتبر تبدلا في المواقف وظواهر لتسخين اجواء الحرب الباردة وتوظيفا لافغانستان من جديد. لقد تعددت هذه الظواهر ومنها الزيارة التي قام بها وزير خارجية افغانستان الى قطر وتزامنت مع انعقاد مؤتمر قطري ـ امريكي للتجارة الحرة وللديمقراطية. وليس صدفة ان يلتقي وزير خارجية افغانستان باحد اعضاء الكونغرس الامريكي المشاركين في المؤتمر، علما ان الوزير الافغاني صرح بأنه جاء الى الدوحة بناء على دعوة من الدولة القطرية وانه يتمنى ان تمنح حكومته مقعد افغانستان في منظمة المؤتمر الاسلامي الذي تتولى رئاسة دورته الحالية قطر، فضلا عن دعوته لاقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين. وفي ذات الوقت الذي تبدو فيه علاقات طالبان مرشحة لانحسار المواجهة مع امريكا يبدو خصومها وعلى رأسهم احمد شاه مسعود الذي وجد استقبالا وترحيبا على الصعيد الاوروبي، حيث زار عددا من الدول الاوروبية مما يكشف قدرا من التناقضات الاوروبية ـ الامريكية! نكتفي بهذا القدر من استعراض لمتناقضات السياسة الامريكية وما سيترتب عليها من آثار سالبة على امريكا وعلى العالم، بينما لم يكمل بعد الرئيس الجديد المائة يوم الاولى من حكمه الذي لم يدخر حليفا ولا صديقا ولا عدوا الا اثار حفيظته. ولعل مثل هذه السياسة تعجل بانهاء القطبية الاحادية وفي ذلك ما يعيد التوازن للعالم.