عاشقان في مايوركا

TT

الصمت في مايوركا اعمق منه في أي مكان على سطح الارض. هكذا قالت جورج صاند عن تلك الجزيرة المتوسطية قبل اكثر من قرن ونصف وليتها تراها اليوم لتغير رأيها وهي تحت التراب فالضجة في مايوركا اليوم أقوى منها في أي مكان وكيف لا تكون كذلك، والغزو الثلاثي الالماني والانجليزي والفرنسي يقصدها على مدار العام فارضا ضجته، ولغاته، وموسيقاه بحيث لم يترك للجزيرة من خصوصيات غير لغة الفلامنكو التي لا تراها وتسمعها هي الاخرى الا في مسارح السياح المكلفة.

وكانت جورج صاند قد رست على شواطئ مايوركا برفقة الموسيقار البولندي شوبان في خريف عام 1838م ورحلت عنها بعد عدة اشهر بعد ان انهت كتابها المشوق «شتاء في مايوركا» الذي لم تسافر الى هناك بغرض كتابته فهي القائلة متسائلة ومتبرمة في الفصل السادس منه: لماذا يسافر الانسان ان لم يكن مضطرا لذلك..؟

ويبدو ان هذا المعنى لم يعجبها فحسب انما تحكم بها وبمسيرتها الصاخبة المتمردة، فقد عادت الى الكتاب في طبعة ثانية عام 1855 لتقول مؤكدة ذلك المنحى: «انه ليس سؤال السفر بقدر ما هو حالة هرب لتجنب المتاعب واعادة النظر في بعض المسؤوليات».

وهرب جورج صاند من المتاعب كان عقدة حياتها الدائمة، فما كانت الحياة سهلة لامرأة تدخن السيجار علنا وترتدي سراويل الرجال في بداية القرن التاسع عشر ولا تكتفي بذلك انما تضيف اليه العيش مع رجل اصغر منها دون عقد زواج، وتلك مشكلة في اوروبا في ذلك الوقت كانت تستحق الرجم وليس كمثل هذه الايام التي صار فيها الاوروبيون يعيشون معا وينجبون ولا يفكرون بالزواج الا بعد ان يشب الاولاد ويتزوجوا.

وتختزل مايوركا علاقة جورج صاند الملتهبة بشوبان، فقد هربا الى هناك هربا من مضايقات باريس التي كانت متزمتة الى حد ما ـ تصوروا.... وبدل ان يجد الموسيقار والكاتبة الترحيب لاحقتهما المضايقات فهربا من الجزيرة على عجل بعد عدة اشهر انتجت كتابا وبعض المقطوعات الموسيقية وتركت للجزيرة متحفا هو الاكثر ازدحاما من جميع معالمها باستثناء كاتدرائية بالما التي قامت مكان جامع اندلسي ما تزال بعض جدرانه توحد ربها بعد قرون على رحيل المسلمين عن الجزيرة.

ويقع متحف شوبان وجورج صاند على شاطئ فالديموزا في منطقة من اجمل مناطق مايوركا وكانت الغرف الثلاث الضيقة التي سكنتها الأديبة الفرنسية وصديقها الموسيقار البولوني ملحقة بمنزل للرهبان، وهي اشبه ما تكون بالزنازين وكم كان شوبان محقا عند وصف غرفته هناك بانها اوسع من الكفن بقليل.

ولأن الطبيعة كريمة كعادتها حين تسرح على حريتها بين البحر والجبل كانت تلك الزنازين الصغيرة على ضيقها شاسعة الفتنة، فمن غرفة شوبان (او كفنه) وهي تحمل الرقم 4 في المبنى القروسطوي، ترى اشجار البرتقال على مد النظر متقاطعة مع اشجار الزيتون وعلى المدرجات ما بين القمة حيث المنزل والسفح الذي يغسل اقدام البحر تزدان الغابة المستأنسة بخليط من الازهار التي تعطيها الشمس عمق اللون الحارق وعذوبة العبير المشبع بعبق يندر ان تجد له مثيلا في غير الجزر المتوسطية.

اما لماذا خرج العاشقان من تلك الجزيرة التي اغدقت عليها جورج صاند بكرم صفات الجنان، فالامر يتعلق بمأساة شوبان المعروفة واصابته بمرض السل الذي لا تنفع معه الرطوبة وهكذا «ازف الرحيل...» كما يقول الشعراء العرب فغادر شوبان اولا ثم لحقت به جورج صاند مع ولديها وخلف الاثنان في منزل الرهبان البيانو العتيق الذي تراه في متحفهما ومجموعة المسودات التي كانت تحبرها جورج صاند عن تلك الجزيرة الساحرة بالاضافة الى بعض الاثاث العتيق الذي اعطاه الزمن نكهة اخرى. ولاحقا وبعد ان اعطاهما التاريخ هالته التي تمسح جميع الذنوب رضيت عنهما الجزيرة التي اضطهدتهما وقررت الاستفادة من ارثهما وشهرتهما ومن الشهور القليلة التي قضياها هناك، فاقامت لهما ذلك المتحف الذي تدخله وتغادره وانت تسمع الالحان التي وضعها شوبان قبل ان يتحكم به المزاج الجنائزي فتعجب لاثر الشمس وهواء البحر على النفوس ولعبير البرتقال حين يدخل في النوتة الموسيقية، فتشمه بأذنيك وتصهل معه بعينيك، وتحتفي مغتبطا داخل نفسك بتلك السيمفونيات الخالدة التي ينتجها زواج عبقرية الانسان بعبقرية الطبيعة.