الغارة الإسرائيلية: طريق عرفات إلى دمشق «غير آمن»

TT

لا أظن زعيما عربيا معاصرا عاش احداثا وظروفا ومتغيرات هائلة كما عاش ياسر عرفات في حياته السياسية الصاخبة الممتدة على مدى خمسين عاما.

ولولا هذه الطاقة الهائلة على احداث الفوضى في حياته وحياة الآخرين، لما استطاع عرفات البقاء والاستمرار والعوم على سطح السياسة العربية الملتهب، بل استطيع القول ان عرفات لا يتألق ويتوهج إلا في الأزمات العاصفة التي تمر به وفي المحن القاسية التي يكابدها شعبه.

من الولادة القيصرية لـ«فتح» كالتنظيم الوحيد المستقل عن العرب والعجم، الى احتكار رئاسة منظمة التحرير ولقب «الممثل الشرعي والوحيد» للفلسطينيين، الى الصدام مع الأردن، الى الصراع الدموي في لبنان مع اللبنانيين والسوريين والاسرائيليين، الى الاعتراف باسرائيل، الى الانحياز الى صدام في حرب الكويت، الى الهروب من مفاوضات مدريد للتورط في اوسلو، الى الكيان الذاتي، الى الانتفاضة الثانية، ومن شامير الى رابين وبيريز ونيتانياهو وباراك وشارون، ومن كلينتون الى بوش... فقد كان عرفات دائما في الكفة غير المتكافئة مع الآخرين.

مع ذلك تمكن دائما من الافلات والنجاح في الوقت الذي يتشكل في كل ازمة شبه اجماع في الرأي، ليس على خسارته فحسب، وانما على نهايته السياسية او الجسدية.

قدرة عرفات على امتصاص الصدمات وتحمل المفاجآت (آلام تصفية رفاق دربه واعوانه) لا حدود لها. وخبرته في التكيف مع الظروف والسياسات المتغيرة لا تجارى. وتجاربه الطويلة في المساومة والتسوية والمصالحة وعقد وفك التحالفات والخصومات هي التي كفلت له التعايش مع الذين يحبونه ويكرهونه. وصلابته الممزوجة بمرونته وخفة حركته وحسن تخلصه هي التي ضمنت له الاستعداد للتناسي، بل وبمعانقة ألد الخصوم الشخصيين.

يبقى عرفات كما هو، والآخرون من عرب وأميركان واسرائيليين مضطرون للتعايش معه في سلبياته وايجابياته، وللاعتراف به سواء رضوا عنه او غضبوا منه، سواء تمنوا ان يذهب او أن يبقى. فما دام حيا فسيظل رمزا وقائدا لشعبه بلا منازع، ولا بديل له حتى ولو كان هذا البديل من وزن حبش او حواتمه او محمود عباس او دحلان او حيدر عبد الشافي او خالد الفاهوم، المرشح السوري الدائم ضده.

ولا شك ان عرفات اليوم يخوض احدى معاركه الطاحنة، ويعيش احدى مآسي شعبه المفجعة. ولذلك فهو يتألق ويتوهج في منعطف فاصل لا هو ولا أحد غيره يعرف كيف تكون نهاية الدرب فيه. لكنه وهو في ذروة الشك والبلبلة والفوضى يتمكن من فرض تغيير في رأي وموقف اكبر معسكر عربي ضده: المعسكر السوري.

قبل ان امضي في الحديث عن مشروع المصالحة الفلسطينية ـ السورية، أود ان أُنَوِّه بأن الفلسطينيين يأتون اليوم في مقدمة العرب فهما لأسرار وألغاز السياسات العربية، واشدهم قدرة على التكهن بها والتكيف معها ومع المتغيرات الاقليمية والدولية. ويأتي بعدهم الاردنيون. وفيما يأتي العراقيون في ذيل التصنيف، فقد تراجع السوريون الى المرتبة الثالثة وربما الى الرابعة بعد المصريين.

كان السوريون اقدر العرب على فهم الواقع العربي بحكم الموقع الجغرافي، وبحكم ريادتهم ومشاركتهم المبكرة في حبك وصياغة السياسة العربية منذ بدايات القرن الماضي. ثم بدأوا في فقدان البوصلة منذ عهد نظام صلاح جديد الذي احتفظ بعلاقات سيئة مع العرب، وتورط هو وورط معه عبد الناصر في الكارثة العسكرية المشؤومة في الستينات.

كان حافظ الأسد آخر تلك النخبة السورية التي فهمت وأدارت السياسة العربية. لكن الغاءه السياسة على مدى ثلاثين عاما حال دون اهتمام السوريين بألغاز المواقف العربية. وباستثناء خدام وأفراد معدودين لم يترك الأسد الأب لوريثه طبقة سياسية سورية لها مهارة وخبرة وفهم الطبقة السياسية الفلسطينية أو الاردنية في هذا المجال الحيوي.

وعلى أية حال، فقد أجادت قيادة بشار في المبادرة الى مصالحة عرفات. ولعل لقاءهما في عمان كان أنجح اللقاءات التي تمت على هامش القمة العربية العقيمة. ويمكن بسهولة ادراك الدواعي السورية لهذا الموقف الفلسطيني الجديد.

هناك اولا الدواعي الشخصية. فبشار كالملكين عبد الله الثاني ومحمد السادس، من جيل جديد يريد ان يقطع صلته بصراعات الماضي العربي،التي جرّت كوارث مأسوية على السوريين والفلسطينيين.

الدواعي السياسية السورية كثيرة، وفي مقدمتها صمود عرفات في مواجهة الضغط الاميركي ـ الاسرائيلي، ومشاركة تنظيمه (فتح) الفاعلة في قيادة الانتفاضة، والتعاطف الشعبي السوري مع محنة الأشقاء الفلسطينيين في الضفة وغزة، ووجود نحو مليون فلسطيني في سورية ولبنان ما زال معظمهم يُكِنَّ لعرفات تأييدا وارتباطا عاطفيا، إن لم يكن تنظيميا.

من خطاب الأسد الابن في القمة، لاحت علائم تشاؤم سوري في امكانية الوصول مع الطبقة السياسية والعسكرية الاسرائيلية الراهنة الى سلام عادل، بل هناك شكوك وريبة في نوايا شارون الذي تحسر في الماضي على «خطأه» في ملاحقة قوات عرفات في لبنان وليس قوات الأسد هناك.

ولعل في الرؤية السورية الجديدة غير المعلنة ميلا الى توسيع العمق الجغرافي والاستراتيجي السوري في حالة نشوب مواجهة عسكرية مع اسرائيل. ولسد الخلل في التوازن، يخطر في الذهن إدخال حساب العراق في المعادلة، وإبقاء الانتفاضة الفلسطينية مشتعلة لمشاغلة جانب من القوات الاسرائيلية، ثم الاقتراب من عرفات لتشجيعه على الصمود، ولضمان تأييد نحو نصف مليون فلسطيني في لبنان، في وقت يتحرك الشارع الطائفي الذي راهن على اسرائيل في الماضي ضد الوجود السوري والفلسطيني هناك.

مصلحة عرفات في المصالحة تتمثل في اضافة الوزن السوري الى الثقل المصري في كفته، والتخفيف عن جمهوره الفلسطيني المحاصر في لبنان وسورية. والمصالحة مع دمشق ستؤدي الى مصالحة مع منظــمات الرفــض الفلســطيــنية الــتي تلوذ بها. وكل ذلك يدعم ورقـــته فـــي المســـاومة مع اسرائيل واميركا.

غير ان تفاصيل المصالحة يكتنفها الغموض، بسبب استخدام المفردات الديبلوماسية التقليدية الأقرب الى التعميم والتعمية منها الى الجلاء والوضوح. لقد حل «ترابط» المسارين السوري والفلسطيني محل «التلازم». لا أحد من الجانبين يفسر ويفصل ما معنى «الترابط» وكيف يتم ومتى وأين؟! ضباب الغموض يكتنفه ايضا التناقض الصارخ. فالقدومي عراب المصالحة والتقارب يقول انها ستتم على اساس «برنامج نضالي» معلنا وفاة اتفاق اوسلو. لكن شلة أوسلو المحيطة بعرفات متمسكة باستئناف التفاوض «من حيث توقفت» أوسلو، وعلى اساس «التزامات واتفاقات» ما بعد اوسلو.

أغرق في المتاهة وملابساتها، فأشعر ان سورية لا تمانع باستئناف عرفات المفاوضة، لكنها تفضل الانتفاضة. ودعمها وتأجيجها شرط من شروط المصالحة كما حددها القدومي.

الأهم من ذلك كله تراجع التنسيق المصري ـ الأردني مع سورية. فمصر والأردن يبدوان وكأنهما في سباق مع المصالحة بين بشار وعرفات. مصر ليست ضدها لكنها تريد التزام عرفات بالمفاوضة قبل الذهاب الى دمشق. و«الأهرام» بعد زيارة مبارك لبوش تؤكد وجود «المبادرة» المصرية ـ الاردنية لـ«دعم مكاسب اوسلو» واستئناف مفاوضات الحل النهائي ووقف العنف (الانتفاضة) خلال اسبوع. وها هو شارون نفسه يقول ان عرفات «تلحلح قليلا وبدأ يفهمنا».

والفتور المصري ـ السوري يتراءى من خلال غياب الحديث عن المسار السوري في محادثات مبارك ـ بوش، وعدم توجه أي مبعوث مصري او اردني الى اليوم، الى دمشق لاطلاعها على نتائج المحادثات في واشنطن (فيما يزور وزير خارجية الأردن شارون للغرض ذاته).

والاشارة الوحيدة التي وردت على لسان الرئيس المصري هي ان «مصر ليست سورية» في معرض نفيه لشائعة توريث ابنه جمال الرئاسة، وهي عبارة لا شك انها تسببت في عتب سوري صامت على القاهرة.

الغارة الاسرائيلية على الرادارات السورية في ذرى طريق دمشق ـ بيروت هي رد شاروني على خطاب الأسد «النضالي» في قمة عمان، اكثر مما هي رد على غارة «حزب الله» على الدبابة الاسرائيلية في مزارع شبعا. لكنها تخدم سورية ضد معارضي وجودها في لبنان، بقدر ما هي ايضا رسالة اسرائيلية الى عرفات الانتفاضة بعدم سلوك طريق دمشق «غير الآمن» على «ختيار» المفاوضة.