موسم إمطار إسرائيل بالجوائز

TT

تدل شواهد عدة على أن إسرائيل تعيش هذه الأيام مرحلة حصد الجوائز، التي بدأت تنهال عليها من كل صوب، صحيح أنها تسلمت ما لا حصر له من الجوائز منذ توقيع اتفاق أوسلو، إلا أن وتيرة المكاسب تسارعت كما هو معلوم في أعقاب أحداث 11 سبتمبر عام 2001، وتضاعفت بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وتشكيلها للحكومة الفلسطينية، وهذه الأخيرة هي التي تعنينا في اللحظة الراهنة.

قبل أيام قليلة، أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس عن «تفهم» واشنطن واستعدادها لقبول خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود اولمرت لترسيم الحدود النهائية لإسرائيل من طرف واحد، بما يستصحبه ذلك من ضم لنصف الضفة الغربية وتهويد للقدس، وتقنين لوضع المستوطنات التي أقيمت عليها، وإضفاء الشرعية على السور الوحشي، ومصادرة غور الأردن، إلى غير ذلك من الإجراءات التي تستجيب إلى أبعد مدى لكل ما يريده الإسرائيليون، كما تهدد إلى أبعد الحدود ليس فقط كل حق فلسطيني، بل أيضاً كل ما صدر في مؤسسات الشرعية الدولية من قرارات فيما يخص الانسحاب من الأراضي المحتلة أو تغيير جغرافيتها، بما في ذلك قرار محكمة العدل الدولية القاضي بعدم شرعية السور.

في تحد لكل ذلك، وفي ازدراء للفلسطينيين، وفي تجاهل تام للعالم العربي والإسلامي، اتخذت الإدارة الأميركية هذه الخطوة، محتجة بذريعة عدم وجود شريك فلسطيني، وهي ذات الأكذوبة التي استخدمها رئيس الوزراء السابق ارييل شارون وهو يقرر من جانبه الانسحاب من غزة، قبل الانتخابات الفلسطينية وقبل تولي حماس للسلطة، غير أن تلك الخطوة الأخيرة بما ترتب عليها من إعلان رئيس حكومة حماس رفض الاعتراف بإسرائيل قبل أن تعترف من جانبها بحقوق الشعب الفلسطيني، هيأت ظرفاً مواتياً لتسويق الزعم بغياب «الشريك الفلسطيني»، ومن ثم إطلاق يد الحكومة الإسرائيلية لكي تتخذ ما بدا لها من قرارات وتوسعات.

وإذ يكشف كلام السيدة رايس عن المدى المدهش الذي بلغه انصياع الإدارة الأميركية للأهواء الإسرائيلية، وعن درجة العمى التي اتسم بها الموقف الأميركي في تقدير تأثير تلك الخطوة على استقرار المنطقة واحتمالات السلام فيها، فإنه في الوقت ذاته جاء كاشفاً عن مدى الذهول والعجز العربيين، ذلك أن توجهاً أميركياً بتلك الدرجة من الجسامة، كان يفترض أن يستقبل على الأقل بإعلان عربي قوي عن الرفض والاحتجاج، مع التحذير من مغبة الاستمرار في التأييد المطلق للأطماع الإسرائيلية، باعتبار أن ذلك من شأنه أن يهدد الأمن القومي العربي، بقدر ما يهدر الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.

لم يحدث ذلك للأسف الشديد، فمرت الجائزة بسلام ـ حتى الآن على الأقل ـ وبالتالي توافرت للحكومة الإسرائيلية الجديدة الإشارات الخضراء والغطاء اللازم، للمضي في مخططات ترسيم الحدود وفق ما تريد، في الأجل المضروب (عام 2010).

هذا الموقف الأميركي أعلن بعد أيام قليلة من قيام القوات الإسرائيلية باقتحام سجن أريحا واختطاف الأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات وخمسة من رفاقه، في عملية واضحة فيها فجاجة التواطؤ الأميركي البريطاني، ومدى الاستهتار بالرأي العام الفلسطيني والعربي، ومدى الجرأة على انتهاك الاتفاق الدولي بخصوص احتجاز سعدات ورفاقه، وتلك جائزة أخرى أهديت لرئيس الحكومة الإسرائيلية بالإنابة، الذي كان يخوض مع حزبه كاديما المعركة الانتخابية ضد منافسيه في حزبي الليكود والعمل بوجه أخص.

اللافت للنظر في هذا الصدد أن بيان قمة الخرطوم لم يعكس أي درجة من الاستياء ـ ولا أقول الاحتجاج أو الغضب ـ إزاء الممارسات الإسرائيلية في الأرض المحتلة، بل ان البيان جاء مخففاً إلى درجة لم تذكر أن هناك قضية أصلا في فلسطين، ذلك أنه في الشأن الفلسطيني ركز على أمرين فقط هما: المطالبة بتنفيذ قرار محكمة العدل الدولية بشأن الآثار القانونية المترتبة على تشييد جدار الفصل العنصري في الأراضي المحتلة ـ وهو تحصيل حاصل ـ والتأكيد على مواصلة الالتزام بتقديم الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، ومواصلة دعم موارد صندوقي الأقصى وانتفاضة القدس تمكينا للاقتصاد الفلسطيني.

المفارقة هنا، أن القمة دعت إيران إلى الانسحاب من الجزر الثلاث التابعة لدولة الإمارات العربية (طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى)، في حين لم تطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، الأمر الذي لا بد أنه استقبل بارتياح في إسرائيل، من حيث أنه بعث إليها برسالة واضح فيها غض الطرف عن كل ما تفعله، الأمر الذي يؤيد الإدراك الإسرائيلي المتزايد بأنه لم يعد في العالم شيء ذو بال يقلقها، وأنها باتت تتعامل مع بيئة استراتيجية مريحة.

الصمت العربي استمر إزاء الإعلان الرسمي الأميركي والكندي عن مقاطعة حكومة حماس ووقف أي اتصال بها، طالما تمسكت بموقفها الرافض بالاعتراف بإسرائيل والمؤيد للمقاومة والمتحفظ على التنازلات التي سبق أن قدمتها السلطة في اتفاقاتها مع إسرائيل، فلم تصدر عن العواصم العربية كلمة استنكار أو عتاب واحد، الأمر الذي يغري بقية الدول الأوروبية على تصعيد حصارها لحكومة حماس، بحيث تتبنى موقف المقاطعة الكاملة ـ بما في ذلك الدبلوماسية ـ وليس فقط قطع المساعدات المالية.

المثير للدهشة في هذا الصدد، أن أغلب العواصم العربية تتبنى في خطابها الرسمي ـ السياسي والإعلامي ـ ذات الموقف الضاغط على حركة حماس، الذي يطالبها بالتسليم بالإملاءات الأميركية والإسرائيلية، حتى بدا السؤال التقليدي الذي ما برح يثار في ثنايا ومفردات ذلك الخطاب هو: لماذا لا تريد حماس أن تعترف بإسرائيل، ولم نسمع أحداً ولو مرة واحدة يوجه السؤال المنطقي والبديهي: لماذا لا تريد إسرائيل وهي الدولة الغاصبة والمحتلة أن تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني؟.

هي جائزة ثمينة لا ريب أن يتبنى الموقف العربي الرسمي مطالبة الطرف الفلسطيني بالانصياع لما تريده إسرائيل، في حين لا يجرؤ على مطالبة إسرائيل بأية استحقاقات للشعب الفلسطيني.

كذلك فإن الاستسلام الدولي والعربي لمنطق الضغط على حماس لكي تستجيب للإملاءات الإسرائيلية بحيث تتبنى سياسة التنازلات المجانية التي تبنتها حكومة فتح يهدي إسرائيل جائزة أخرى، تتمثل في أنه يوفر لها غطاء كافياً لتبرير كل الإجراءات العقابية الموجهة ضد الشعب الفلسطيني، من ترسيم الحدود من جانب واحد والتي أشرنا إليها قبل قليل، إلى عملية تجويع الشعب الفلسطيني ووقف كل مشروعات البنية الأساسية المفترض إقامتها في الضفة وغزة.

ومن أسف، أن أغلب قيادات حركة فتح وبعض محترفي السياسة الفلسطينيين انضموا إلى الطرف الضاغط على حكومة حماس، ومن ثم قدموا نموذجا يائسا تراجعت في ظله أولوية «القضية»، وتقدمت الحسابات والمرارات الذاتية، الأمر الذي دفع هؤلاء إلى السعي الحثيث لإفشال تجربة حماس، بدءا من مقاطعة الاشتراك في حكومة للوحدة الوطنية، وانتهاء بالاشتراك في تعزيز الانفلات الأمني، مرورا بالتواطؤ مع الجهود الدولية الرامية إلى إضعاف الحكومة وتقصير مدتها في الحكم، وثمة تفاصيل كثيرة في هذا الصدد تشين تلك المجموعات من الزاويتين الوطنية والتاريخية، وتقدمها في مربع واحد ـ صدق أو لا تصدق ـ مع الإسرائيليين والأميركيين، وكل الذين يكنون عداء للشعب الفلسطيني وقضيته.

من المدهشات في السياق الذي نحن بصدده أن أبواق المتصهينين العرب التي لم تخف امتعاضها من تصويت أغلب الشعب الفلسطيني لصالح حماس، لم تقصر في تجميل الموقف الإسرائيلي في تطوراته الأخيرة، إذ دأبت على القول بأن فوز حزب «كاديما» الذي يرأسه ايهود اولمرت تعبير عن الانحياز «للوسط» في إسرائيل، وأن ذلك بمثابة «انجاز» يوفر فرصة مواتية لصالح مستقبل الإسرائيليين والفلسطينيين، وتلك هدية إضافية تسهم في تزييف الإدراك العربي وخداعه، من خلال التستر على كل الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين، التي لا يزال يتبناها حزب كاديما.

الهدية الأخرى التي تنتظرها إسرائيل بلهفة، هي ذلك التصعيد الدولي في مواجهة إيران بسبب ملفها النووي، باعتبار أن ضرب المشروع النووي الإيراني يشكل هدفاً استراتيجياً ملحاً لإسرائيل، أصبح ضمن أولويات السياسة الأميركية في المنطقة، صحيح أن التصعيد لا يزال سياسياً حتى الآن في ظل مهلة الثلاثين يوماً التي أعطتها الدول الكبرى لإيران، لكن تواتر الحديث بقوة هذه الأيام عن عمل عسكري أميركي لا بد أنه يشيع البهجة في إسرائيل، باعتبار أن تلك الخطوة ـ إذا نجحت ـ هي الضمان الوحيد لضمان التفوق العسكري الكاسح لإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط.

أخيراًَ وليس آخراً، فإن أحدث الجوائز العربية التي قدمت لإسرائيل أن بعض القيادات العربية في الدول المتصالحة مع الدولة العبرية، بعثت إلى أولمرت بالتهنئة على فوز حزبه في الانتخابات، في حين لم يخطر لها أن تهنئ إسماعيل هنية على فوز حركة حماس وتكليفه بتشكيل الحكومة الفلسطينية.. والحبل على الجرار.