نحن هنا... وهم هناك!

TT

الفوز الذي حققه حزب «كاديما» في الانتخابات الإسرائيلية كان انتصارا لاستراتيجية خاصة بالتعامل مع الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بأكثر منه انتصارا لحزب سياسي في معركة انتخابية تتصارع فيها القوى المختلفة، على قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية معقدة. فبحكم النشأة الحديثة والتي لا تزيد عن شهور قليلة، وبحكم حالة التحالف أو التآلف القائم بين أشتات من كل الأحزاب الإسرائيلية ذات التوجهات اليسارية واليمينية، فإن ما جمع «الشامي على المغربي»، كما يقال في مصر، لا يزيد عن الاتفاق على فكرة تخص أهم الموضوعات على قائمة أعمال الدولة العبرية، وهي التي تقول بأن إسرائيل عليها أن تأخذ في يدها عملية التسوية مع العرب عامة، والفلسطينيين خاصة، بحيث لا تكون أسيرة للرغبات الفلسطينية والعربية، ومعتمدة اعتمادا كاملا أولا على القدرات الإسرائيلية في تحديد ما تحتاجه وتريده إسرائيل من الأراضي المحتلة، وثانيا على القبول العالمي بما تنجح القدرة الإسرائيلية على تحقيقه بالأمر الواقع أو القوة المسلحة أو كليهما معا، وثالثا على الزمن الذي يشفي جرح الجانب العربي ويعينه على ما نقص أو غاب.

وكان الاسم الرسمي لتلك الأفكار ما عرف باستراتيجية الفصل الأحادي الجانب، والتي تعود أصولها إلى فكرة «نحن هنا وهم هناك»، والتي قال بها إسحق رابين ـ رئيس الوزراء الإسرائيلي المغتال ـ لتبرير اتفاقية أوسلو، مشيرا إلى ضرورة الفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين جغرافيا وسياسيا استنادا إلى وضع «الديموغرافيا» على رأس قائمة التهديدات العظمى للدولة اليهودية. وكانت هذه أول بلورة للاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، بحيث يكون مقبولا فى النهاية أن يكون الفلسطينيون هناك في الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما يبقى الإسرائيليون هنا ـ أي في إسرائيل ـ ضمن حدود تحددها المفاوضات. وكانت هذه الفكرة الاستراتيجية في جزء منها مواجهة مع أنصار «أرض إسرائيل التاريخية» الذين نظروا إلى الضفة الغربية كجزء من الوعد الإلهي، كما كانت جزءا من مواجهة مع أنصار «إسرائيل الكبرى» التي صارت فيها الضفة الغربية وقطاع غزة جزءا من العمق الاستراتيجي الأمني لإسرائيل.

وكان ممكنا لفكرة رابين أن تنجح لو أنها تطابقت بإخلاص مع حدود يونيو 1967، ولكن ما جرى فعليا هو أن الحركة الاستيطانية الإسرائيلية ذهبت إلى هناك وتوسعت داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة محولة الاحتلال إلى واقع ديموغرافي. وبادلت الحركات الراديكالية الفلسطينية هذه النزعة التوسعية نفس المنطق حيث جعلت عملياتها العسكرية شاملة لكل أرض فلسطين «التاريخية». ومع هذه العملية التبادلية لم يكن ما هنا وما هو هناك، إلا جزءا من مسرح واحد للعمليات المناوئة لاتفاقيات أسلو ومنطقها. وبهذه الطريقة تم توحيد المنطق الاستراتيجي بينما كان يجري الفصل في المنطق السياسي ووضعه على أسس جغرافية وتاريخية وحتى دينية. وكان مستحيلا إزاء ذلك تطبيق نظرية ما تبقى من أوسلو القائمة على الانفصال الاستراتيجي بالقسمة بين دولتين مع التوحيد الاقتصادي من خلال اتحاد جمركي فرضته الظروف الخاصة بالدولتين والأوضاع الخاصة بالدولة الفلسطينية الوليدة. فسرعان ما تمزقت العلاقات الاقتصادية بين البلدين فى إطار سياسات الخنق الاقتصادي التي قامت بها إسرائيل إزاء الفلسطينيين من خلال التأثير في التجارة الفلسطينية، تصديرا واستيرادا عبر موانيها، ونقاط التفتيش المتعسفة التي جعلت النشاط الاقتصادي مستحيلا، ووقف العمالة الفلسطينية في إسرائيل والتي كانت مصدرا ماليا أساسيا للسلطة الفلسطينية.

ومن ناحية أخرى، كانت سياسة «الشلل» للحياة الاقتصادية في إسرائيل واحدا من أهم أهداف العمليات الانتحارية/ الاستشهادية الفلسطينية، حيث أثرت على السياحة والاستثمار في إسرائيل؛ وبهذه الطريقة عمل الطرفان على تمزيق الاتحاد الجمركي حتى قبل أن يبدأ عمله.

ومن الناحية التاريخية البحتة، فقد كانت فكرة الاتحاد الجمركي مرفوضة من قطاعات واسعة على الجانبين، فعلى الجانب الإسرائيلي كان هناك المعترضون على الارتباط باقتصاديات متخلفة وبدائية ـ عربية أو فلسطينية ـ بينما ترغب إسرائيل أن تظل جزءا من اقتصاد العالم المتقدم، والخائفون من وجود أكثرية سكانية وثقافية عربية في الدولة العبرية. وعلى الجانب الفلسطيني والعربي عامة، لم يكن التخوف من «لتطبيع» أقل قسوة، سواء كان جاريا مع «العدو الصهيوني»، أو مع إسرائيل التي عقدت معاهدة سلام على أساس أن ذلك يؤدي إلى «الهيمنة» الإسرائيلية على منطقة واسعة ممتدة من المحيط إلى الخليج.

وهكذا حدث التواطؤ بين قطاعات إسرائيلية وفلسطينية ـ وعربية أيضا ـ على تدمير اتفاقيات أسلو ومنطقها فى عام 2000.

وبعد أربعة أعوام من المواجهة المسلحة، كان أنصار «نحن هنا وهم هناك» قد انتصروا على الجانبين ومن دون اتحاد جمركى أو حتى علاقات سياسية. وكان ذلك تحديدا هو ما صوت عليه الإسرائيليون في الانتخابات الأخيرة، ويبدو أن ذلك هو ما صوت عليه الشعب الفلسطيني أيضا عندما أعطى لمنظمة حماس أغلبية مقاعد المجلس التشريعي، فمن الناحية السياسية لم تكن حماس أبدا من أنصار السلام مع إسرائيل على أساس «الحقوق التاريخية»، كما أنها لم تكن أبدا محبذة لفكرة التفاعل الاقتصادي لأنها كانت تعتبر كل أنواع «التطبيع» مفسدة مطلقة، ومن الناحية العملية فإن فكرة «الهدنة الممتدة» هي التجسيد العملي لنفس الفكرة الاستراتيجية: نحن هنا وهم هناك. ووفق هذا المنطق، فإنه لا توجد هناك حاجة عملية لكى يتحدث الطرفان مع بعضهما البعض، فهما لا يتوزعان بين هنا وهناك فقط، وإنما سوف تؤدي الهدنة المستمرة إلى تمدد الجدار «العنصري» لكي يفصل ماديا بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.

المشكلة العظمى في ذلك هي أن التوافق السلبي الحالي يقوم على قاعدة قلقة تماما لأنه أولا يكرس الاحتلال، وثانيا يخلق أمرا واقعا من خلال التوسع في المستوطنات الكبرى التى تقتطع مع توابعها أجزاء ملموسة من الأراضى الفلسطينية، وثالثا أن كل ذلك يحدث من خلال توافق دولي عام على أن ذلك هو أفضل ما يمكن فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ورابعا لأن معنى ذلك استمرار «القضية الفلسطينية» وانتقالها إلى أجيال جديدة. وكما يحدث في كل أنواع «الهدنة»، فإن أطرافها تستغل الوقت لكي تستعد لجولة ثانية من الصراع، وبينما سوف تجد إسرائيل الكثير مما تفعله لرقابة السلطة الفلسطينية من خلف السور وضربها بين وقت وآخر، فإن الفلسطينيين سوف يفعلون ما يرونه مناسبا لتطوير قدراتهم للعبور فوق السور أو من تحته بالصواريخ أو الأنفاق. وببساطة، فإن جذور المواجهة تبقى وتنمو مهما كانت المظاهر الهادئة على السطح؛ وربما كان ذلك هو السبب في أن نسبة المشاركين في التصويت الإسرائيلى كانت أقل من الأوقات الماضية ليس فقط بسبب الملل، ولكن لأن التغيير لا يبدو تغييرا على الإطلاق. والمعضلة هي أن منظمة حماس التي وعدت الفلسطينيين بالتحرير إذا بها تترجم التحرير ليس كواقع تقوم به إسرائيل بالانسحاب من الأراضي المحتلة، وإنما يصبح عند حده الأدنى، وهو إبقاء الأمور على ما هي عليه، أي استمرار الاحتلال، وضم أراض فلسطينية بمباركة دولية.