لبنان وسورية... والفرصة الذهبية التي لا تتكرر

TT

امضى اللبنانيون المحايدون الطيبون ومعهم بعض محبي بلدهم، وبالذات المملكة العربية السعودية، التي لولا الاتفاق الذي تم انجازه في الطائف لما كان للحرب اللبنانية ان تتوقف، الاسبوعين الماضيين وهم على درجة من القلق بسبب الاجواء المفتعلة والمحمومة التي اوحت بأن البلد الذي بات آمناً هو على كف حرب اهلية جديدة. وما نقصده بقولنا «اللبنانيون المحايدون الطيبون» هو أن غالبية اللبنانيين ضد هذه الاجواء، ويريدون لبلدهم ان يستقر، ويفضلون مناقشة كل الامور العالقة بعيداً عن التشنج ونبذ اساليب التلويح بالقوة والاحتكام الى الفوضى والشغب بدل الاحتكام الى العقل والضمير. وهؤلاء كانوا قبل الحرب التي اشتعلت يوم الثالث عشر من ابريل (نيسان) 1975، وطال اشتعالها وتشعبت فواجعها، مع ان يتم كل شيء تحت سقف الحوار والمناقشة المسؤولة، ولكن الغرباء استحكموا ببعض الزعامات واستعملوها كأدوات تفجير، وبات اللبنانيون في غالبيتهم وقوداً لحرب غير مفهومة كان يمكن ان تستمر حتى يومنا هذا لولا ان المملكة العربية السعودية بقيادتها الحكيمة والمخلصة رمت ببعض ثقلها المعنوي، واستطاعت جمع رموز الصيغة اللبنانية على كلمة سواء. ونحن عندما نستحضر في الذكرى السادسة والعشرين لتلك الحرب ما الذي جرى على مدى شهر في الطائف ثم في جدة، نلاحظ انها من المرات القليلة التي تقوم فيها قيادة بلد بكاملها في التعاطي مع موضوع بهدف ايجاد حل متوازن له، هذا فضلاً عن ان المملكة العربية السعودية لم تكن مجرد بلد مضيف، وإنما كانت، اذا جاز التوصيف وعلى مدى شهر كامل، بمثابة مستشفى اخذ على عاتقه نقل بلد بكامله الى هذا المستشفى، الذي خصص غرفة عناية فائقة، وتولى العلاج طاقم متخصص يجمع الى القدرة على العلاج مشاعر المحب للمريض الراقد في هذا المستشفى. ونقول ذلك لنؤكد ما معناه ان المملكة العربية السعودية لم تكن مجرد مضيفة مؤتمر، وإنما كانت مهمومة ومهتمة في الوقت نفسه، مهمومة بالحال التي انتهى اليها بلد احبه ابناء الملك عبد العزيز وهم في طريقهم الى تسلُّم المسؤولية، واستمروا على حبهم له بعدما باتوا يشغلون مواقع في مفاصل رئيسية في الدولة، وهي في تقديرنا حالة غير مطروحة خصوصاً ان لبنان ليس على حدود المملكة لكي يقال ان لهذه العاطفة موجبات بدافع المسايرة من أجل احتواء خلاف حدودي.

وفي تقديرنا ايضاً انه لو كان المؤتمر الذي استضافته المملكة لم ينعقد فيها وإنما في بلد آخر، لما كان للحرب ان تتوقف، ولكانت ستستمر ويتساقط الضحايا بالعشرات يومياً، ويأتي التدمير على ما تبقى من معالم البنيان في البلد الى ان ينتهي الامر الى غالب ومغلوب، بل ربما كانت وصلت الحال بلبنان الى انه مثل افغانستان الآن وكانت ـ من يدري ـ ستنشأ نتيجة لذلك جماعات ترى ان يتم تدمير قلعة بعلبك وجبيل وبقية القلاع والتماثيل الاثرية والنواويس التي ترمز الى حضارة مضت عليها الوف السنوات، وكذلك تماثيل رياض الصلح وبشارة الخوري وحبيب ابي شهلا (من رموز الاستقلال بين رجال السياسة) وجبران خليل جبران. كذلك ربما كان سيشهد لبنان جماعات تكفِّر المؤمنين وتبرّئ المشركين وتحلل الحرام وتحرِّم الحلال.

في تقديرنا ايضاً، وايضاً انه لو لم يتابع الملك فهد بن عبد العزيز، وكذلك ولي عهده الامير عبد الله، والنائب الثاني الامير سلطان، وامير الرياض سلمان بن عبد العزيز، ووزير الخارجية الامير سعود الفيصل، على مدار الساعة طوال شهر ما يدور داخل اجتماعات رموز الصيغة اللبنانية، ويتم في اللحظة الحرجة التي تواجهها المناقشات، بذل المسعى المخلص والودي ومن دون ان يتخذ ذلك طابع التدخل، لكان ربما لن يصل مؤتمر الطائف الى نتيجة، ولكان النواب الذين شاركوا في المؤتمر ربما عادوا كل إلى المكان الذي جاء منه، إما في المنافي الاختيارية ـ الاضطرارية في لندن وباريس وجنيف وقبرص، وإما في لبنان المنقسم جناحين: شرقي وغربي.. هذا اذا كان لن يلقى العائدون من المؤتمر ـ او نفر منهم ـ جزاءهم على ايدي الذين يواصلون إشعال البيت ناراً، او تستقطب الفوضى بعض هؤلاء العائدين بحيث ينتقلون الى الحواجز بدل الشرعية.

وفي قولنا انه ما كان للحرب ان تتوقف لولا جغرافية مكان انعقاد مؤتمر رموز الصيغة اللبنانية (اي اعضاء البرلمان)، ولولا نخوة القيادة المضيفة وحرصها على ايجاد الحل حباً بلبنان وليس من اجل ان تضيف إلى اهتمامها بالاشقاء وقضاياهم مأثرة اهتمام جديدة... إننا في قولنا هذا لا نتحدث من فراغ، وإنما نستند إلى أمثلة واقعية حول مؤتمرات بهدف المصالحة جرى عقدها في دول كثيرة واخفقت في التوصل الى حلول. بل انه بالنسبة الى المعضلة اللبنانية نفسها حدث قبل مؤتمر الطائف ان عقد رموز الصيغة اللبنانية اجتماعات لهم في لوزان على اساس ان هذه المدينة السويسرية، شأنها شأن جارتها جنيف، هي مكان محايد، وأن فيها من الهدوء ما من شأنه ان يجعل العقول تبتكر الحلول المناسبة، وفي لوزان يمكن الاستعانة بكل الاطراف الدولية المهتمة بالوضع في لبنان. ومع ذلك فإن الاجتماعات انتهت الى لا شيء. وهذا سببه انها لم تنعقد في رحاب من هم محبون للبنان وصادقون في حدبهم عليه.

الذي اوجب هذا الكلام ان لبنان عاش، قبل ايام من الذكرى السادسة والعشرين للحرب، اجواء توحي كما لو أنه على اهبة ان تتكرر على ارضه وبين شعبه تلك الحرب اللعينة. تصريحات من هنا عبر الصحف او شبكات الانترنت. ومسيرات من هناك. وتظاهرات تطلق هتافات من النوع الذي يحمل في طياته نيات خبيثة. وعرض عضلات في الشوارع يسير فيه مقنَّعون يخفون وجوههم، ويرفعون عالياً السواطير والسكاكين والفؤوس والسيوف غير الاصيلة، وغرضهم من ذلك الإيحاء بأنهم سيجعلون من لبنان جزائر ثانية تشهد بعض قراها وبلداتها يومياً جرائم ذبح لنساء ورجال وفلاحين واطفال، واحياناً لعائلات بكامل افرادها.

ولا يحتار المرء في تصنيف هذه الممارسات والذين يمارسونها، بصرف النظر عن مكانتهم ومقامهم ورؤاهم، فهم ضد بلدهم وضد الاستقرار وضد صيغة الطائف، لأنها كانت الصيغة المتوازنة التي ارتأت ان لا يكون هنالك في لبنان غالب ومغلوب. لكن من المهم ان يكون واضحاً للجميع ان صيغة الطائف، وعلى النحو الذي اوردنا ظروف الانعقاد واهمية جغرافية المكان ونخوة القيادة المضيفة وحرصها على لبنان مع انه تكراراً، ليس على الحدود ولا مشاكل حدودية معه، ولا هو منافس للزعامة السعودية، وليس حاسداً للمملكة... ان صيغة الطائف هذه هي من نوع الفرص الذهبية. والفرصة الذهبية عادة لا تتكرر، كما ان تضييعها هو بمثابة الخسارة الكبرى. ويخطئ أولو الامر اللبنانيون والسوريون معاً اذا هم ظنوا ان الاستهانة بهذه الصيغة وعدم التعامل معها بواقعية ومرونة وبعيداً عن العناد والتشدد، من شأنهما ان يفيدا. كذلك يخطئ هؤلاء اذا هم اعتقدوا انه ما دامت المملكة العربية السعودية كانت الراعية لاتفاق الطائف، وكانت قيادتها هي المضيفة، وهي الباذلة بصدق كل الجهد المخلص، فإنها لا بد ستتدخل من جديد في حال تجددت المواجهة.

اما لماذا يخطئ هؤلاء جميعاً، ومن دون أن نخوض في تحديد الاسماء والمقامات ونوعية الولاءات والتحزبات، فلأن المملكة قامت بواجبها واكثر (على نحو ما تفعل مع الفلسطينيين على صعيد المساندة المالية والسياسية، وبالذات بالنسبة الى الانتفاضة) وأن البقية تقع على عاتق الطرفين اللبناني والسوري، الاول بتشعباته وتقاطعاته، والثاني بشخص قيادته الوراثية الشابة، التي شجع نزوعها نحو الانفتاح واعادة النظر المتدرجة بهدف تحقيق انفراجات في اكثر من موضوع داخلي، اطرافاً في لبنان على ان تطرح، بعشوائية وبروحية انتقامية تفتقد الى التجرد، موضوع اتفاق الطائف، الذي يشكل الوجود العسكري السوري في لبنان احد بنوده.

وليس منطقياً ولا هو مألوف على الاطلاق، أن يتم الاستنجاد بالمطافئ مرة ثانية لاطفاء حريق في بيت اشعله عمداً اصحاب هذا البيت. والمثل الشعري السائر يقول ان اللبيب من الاشارة يفهم.