انقلاب في أمريكا

TT

تسعى الولايات المتحدة الأمريكية ابتداء من عهد الرئيس الاسبق جورج بوش الى فرض نظام القطب الواحد على العلاقات الدولية من بعد سقوط الاتحاد السوفيتي على يد الرئيس ميخائيل جورباتشوف، ووقف الحرب الباردة التي وصلت الى ذروتها في عهد الرئيس الأسبق رونالد ريجان، الذي كان يصف الاتحاد السوفيتي «بالشيطان»، ونادى بالوقاية منه عن طريق الدروع النووية التي اطلق عليها اسم «حرب النجوم»، وتناقض مع نفسه بطلبه من «الشيطان» المشاركة فيها، ليثبت بان «حرب النجوم» تهدف الى حماية الحياة الانسانية وحضارتها المعاصرة على الأرض، عند الطرفين المتصارعين في الحرب الباردة الدائرة بينهما.

سقوط جورج بوش الاب في انتخابات الرئاسة الاميركية سنة 1992م، وعدم تجديد العهد له لمرة ثانية، كان له اسباب عديدة، ومن ابرز هذه الأسباب عدم قدرته على تحقيق النظام الدولي الجديد «القطب الواحد» باعتباره شريكا في الحكم بصفته نائباً للرئيس رونالد ريجان، الذي كان يسعى الى التفوق على الغير من خلال المنافسة الاستراتيجية، فيصعب عليه الاقتناع بالمشاركة الاستراتيجية مع منافسيه في سبيل تحقيق التفوق عليهم، وجاء خروجه من السلطة مدوياً لأنه يتناقض مع انجازاته الكبيرة على المستوى الدولي، دون ان يدرك احد انذاك الاسباب الاستراتيجية التي ادت الى سقوطه، لأنها كانت مخفية بسياج السرية التامة.

بدأ الرئيس السابق بيل كلينتون عهده منذ اليوم الاول الى اخر ايام حكمه الممتد لثماني سنوات على اساس المشاركة الاستراتيجية مع الدول التي تمتلك صفات الاقطاب الدولية، ليفرض من خلال هذه المشاركة الزعامة الامريكية المنفردة على العالم، واستطاع ان يحجم من خلال هذه المشاركة الاستراتيجية الادوار المناهضة للزعامة الامريكية، ولكنه فشل في ان يصل الى فرض الزعامة الدولية لها على العالم، فسارع الرئيس بيل كلينتون بمشورة يهودية الى تحقيق هذه الزعامة الامريكية على العالم من خلال السيطرة الاقتصادية، تحت مظلة المشاركة الاستراتيجية بالدعوة الى العولمة، التي تلغي الحدود وترفع القيود بين الدول وتفرض عليها التبعية لأمريكا بانتقال السيادة من الحكومات في الدول المختلفة الى الشركات الكبرى المتعددة الجنسية التي تسيطر على التجارة الدولية، وهي شركات خاضعة لنفوذ يهود امريكا، وهو مخطط رهيب يجعل من العولمة مؤامرة يهودية تفرض السيطرة الظاهرة لأمريكا على العالم وتحقق السيطرة الفعلية لليهود على العالم بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية.

ادركت الشعوب حقيقة هذه المؤامرة اليهودية المستغلة للفكر الاستراتيجي الدولي القائم على المشاركة لتنفذ منه لحكم العالم، غير ان الشعوب عارضت هذا التوجه بالوقوف في وجه العولمة بالثورة عليها في سياتل المدينة الامريكية، وفي دافوس المدينة السويسرية، التي يعقد بها المنتدى الاقتصادي السنوي، وقامت خمسمائة منظمة شعبية في كافة انحاء العالم لمحاربة العولمة، وتوجت المعارضة للعولمة في اثناء الانعقاد الاخير للمنتدى الاقتصادي في دافوس بعقد مؤتمر صاخب في مدينة بورتواليجري بجنوب البرازيل شارك فيه ثلاثة الاف من رجال الاقتصاد والسياسة وينتمون الى 122 دولة، اجمعوا على ضرورة رجم العولمة بالحجارة لمنع الاخذ بها في العلاقات التجارية الدولية، وعثرت هذه المعارضة الشعبية للعولمة الخطوات الامريكية في طريق السيطرة على العالم، ولكن تلك المعارضة للعولمة لم تستطع الغاءها لأن النفوذ اليهودي لا يزال وراءها ليحقق لنفسه السيطرة الفعلية على العالم من خلال مقاوله السياسي من الباطن الولايات المتحدة الأمريكية.

عند وصول جورج بوش الابن الى سدة الحكم في واشنطن بادر الى قلب الموازين الاستراتيجية وتحويلها من المشاركة مع الاقطاب الاخرى لتحقيق انفراد امريكا بالسلطة الدولية، الى استراتيجية المنافسة معهم ليفرض بالقوة بعد ان تعذر ان يفرض بالتفاهم سطوة امريكا على العالم، باعتبارها الدولة القطب التي يدور في فلكها كل دول العالم، وهذا ما جعل صحيفة النيويورك تايمز تصف سياسة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بالانقلاب على كل السياسات الاستراتيجية التي مارسها الرئيس السابق بيل كلينتون طوال السنوات الثماني الماضية، واكد الرأي الذي اعلنته صحيفة النيويورك تايمز، الدبلوماسيون والمفكرون السياسيون في امريكا واوروبا بقولهم اننا امام حالة انقلاب استراتيجي دولي يلغي المشاركة، ويفرض التنافس، ويجب التعامل معه باتقان وروية من خلال الحرب الباردة التي على وشك الاندلاع مرة اخرى، ليس بين قطبين دوليين كما كان الوضع قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، قسَّما العالم الى معسكرين غربي تتزعمه واشنطن وتدور في فلكها مجموعة من الدول، وشرقي تتزعمه موسكو وتدور في فلكها مجموعة اخرى من الدول، على اساس اختلاف العقائد السياسية، وانما ستدور الحرب الباردة الجديدة بين خمسة اقطاب: الولايات المتحدة الأمريكية التي تقف في وجه الأربعة اقطاب الاخرى بهدف فرض سيطرتها على الدنيا، وتعارضها في ذلك الوحدة الأوروبية القطب الثاني، الذي ادرك خطورة التوجه الامريكي في مرحلة الاستراتيجية المشتركة، وعقدت القمة الأوروبية في نيس المدينة الفرنسية، التي قررت تكوين جيش اوروبي مستقل ليخرج اوروبا من التبعية لامريكا التي استطاعت تجميد قرار تكوين الجيش الأوروبي لمعارضته لحلف شمال الاطلنطي «الناتو» ولكن بعد لجوء الرئيس الجديد الأمريكي جورج بوش الابن الى الاستراتيجية التنافسية بدأ التفكير الاوروبي في الجيش الاوروبي لتحافظ على استقلال قرارها السياسي في ظل الاستراتيجية التنافسية على قيادة العالم، لأن اوروبا ترفض تجربة التبعية لواشنطن التي تخلت عن حلفائها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لتصل الى زعامة العالم منفردة بدون حلفائها الأوروبيين الذين يتطلعون الى جعل الوحدة الأوروبية احد الاقطاب في العلاقات الدولية.

تدرك اليابان وهي القطب الثالث خطورة الاستراتيجية التنافسية عليها باعتبارها قوة اقتصادية دولية كبرى عملت امريكا على القضاء عليها في مرحلة الاستراتيجية المشتركة بضرب النمور الاسيوية التي هي في الواقع امتداد للقوة الاقتصادية اليابانية من خلال امتيازات التصنيع اليابانية للعديد من الدول الاسيوية، واستطاعت اليابان في تلك المرحلة ترميم الدمار الاقتصادي الذي نزل بحلفائها الاسيويين في التصنيع وبعد ان انقلبت امريكا خلال الربع الأول من عامنا الحالي 2001م على استراتيجية المشاركة لتفرض استراتيجية المنافسة سارعت اليابان الى اعادة بناء الصرح الاقتصادي في دول جنوب شرقي اسيا لتعيد لها سمات القوة باعادتها لتكون نمورا اسيوية لتشكل معها وبها قوة اقتصادية كبرى تجعل من اليابان قطبا دوليا فعالا تحت مظلة الاستراتيجية التنافسية حتى تمنع امريكا من الانفراد بالسلطة الدولية.

تحاول روسيا العودة الى العافية السياسية من خلال اتصالات عديدة مع دول العالم لتثبت بانها لا تزال قطبا دوليا تحت مظلة الاستراتيجية التنافسية التي يصر على فرضها الرئيس جورج بوش الابن بالعودة غير المنطقية الى سياسة الرئيس الاسبق رونالد ريجان طوال سنوات حكمه الثماني من سنة1981م الى سنة 1988م بفرض حائط الصواريخ «حرب النجوم» فأغضب ذلك الروس لان العلاقة بين واشنطن وموسكو لا تستدعي اقامة النظام الدفاعي. وردت امريكا على هذا الغضب الروسي بانها تخشى من وقوع السلاح النووي في يد دول اخرى، وفي ذلك «غمز ولمز» لموسكو لقيامها ببيع السلاح النووي وطرق تصنيعه للعديد من الدول في «الحراج النووي» الذي اقامته في بلادها.

لا يمكن تفسير الازمة الصينية الامريكية الحالية بعيداً عن القطب الخامس الذي تمثله بكين في العلاقات الدولية، وزاد تأجج دوره فرض الاستراتيجية التنافسية على يد امريكا ونكرانها العلني لدور الصين في لعبة الاقطاب الدولية لافتقادها للتفكير الاستراتيجي بسبب تقوقعها داخل اطر شيوعية تلتزم بالنص الشيوعي النظري وتفتقد للمرونة في تطبيقه فلا يمكن ان تكون الصين الشعبية خليفة للاتحاد السوفيتي بعد انهياره لانها تجهل قواعد اللعبة الاستراتيجية وتفتقد القدرة على ممارستها فوق المسرح الدولي، وهذا التفكير الامريكي المتعالي على الصين صعد ازمة الصدام بين الطائرات ليكون صداماً عنيفاً بين واشنطن وبكين التي طلبت اعتذار امريكا على ما حدث من تجسس عليها وصدام بين طائراتهما لتثبت به رغم انف امريكا بأنها دولة قطب في العلاقات الدولية، فيحق لها التنافس الاستراتيجي لتمنع تسلط امريكا على الدنيا بالمشاركة مع غيرها من الاقطاب الاخرى في حكم العالم.

يبدو ان الانقلاب في امريكا على يد الرئيس جورج بوش الابن بالتحول من استراتيجية المشاركة الى استراتيجية المنافسة اضر بالطموحات الامريكية وابعدها عن الانفراد بالسلطة الدولية بعد ان ادركت الاقطاب الاخرى اهتمامها بنفسها واهمالها لمصالح غيرها بالانسحاب العدواني من المفاوضات حول الصواريخ مع كوريا الشمالية والغاء وساطتها السلمية في ايرلندا والشرق الأوسط تمهيداً لتحكم بما تريد على غيرها من الدول فسارعت الاقطاب الأربعة المنافسة لها على ابعادها من قيادة العالم وجعلت منها مجرد طرف في الحرب الباردة الجديدة التي تحكم العالم.