تركيا: عين أردوغان على رئاسة الجمهورية

TT

وصلت المشاكل التي اشتعلت ما بين الاكراد وقوات الامن التركية من جنوب ـ شرق تركيا، الى اسطنبول حاصدة في طريقها ما يزيد عن 10 قتلى و 200 جريح. حدث ذلك في الثامن والعشرين من الشهر الماضي اثناء جنازة 14 عضوا من حزب العمال الكردي اثر اصطدامات مع قوات الامن. رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان وجّه تحذيرا شديد اللهجة الى الاكراد بأن القوات الامنية ستتدخل ولن تأخذ بعين الاعتبار وجود اطفال او نساء في صفوف المتظاهرين.

وزير الخارجية التركي عبد الله غول اشار الى ان بين القتلى من المتظاهرين، ثلاثة سوريين، وعراقيا، وايرانيا، لكنه اضاف بأن ايران والعراق وسوريا تتعاون امنياً مع تركيا بالنسبة الى حزب العمال الكردي، ودعا في مقابلة مع التلفزيون التركي، حكومة بغداد الى وقف نشاط حزب العمال الكردي في شمال العراق، «لأن المقاتلين الاكراد في المستقبل سينزلون الضرر بالعراق وتركيا».

لوحظ ان المشاكل الكردية اندلعت بعد اربعة ايام من التصريحات التي اطلقها رئيس هيئة الاركان الاميركية الجنرال بيتر بايس في انقرة، حيث قال :«في شمال العراق، وقبل ان نعالج مشكلة حزب العمال الكردي، يجب ان نوفر الاستقرار للحكومة العراقية (...)، حتى تتمكن حكومة عراقية ذات سيادة من العمل مع الحكومة التركية وحكومتي على مواجهة مشكلة حزب العمال الكردي في الشمال».

وفي ما يظهر كتغيير في السياسة الاميركية، استبعدت ادارة الرئيس جورج دبليو بوش اي عملية عسكرية ضد المقاتلين الاكراد الاتراك في شمال العراق، بعد ان كانت وعلى مدى سنة اكدت لتركيا بأن القوات الاميركية سوف تساعد في ابعاد 4000 مقاتل ، يتدربون في جبال قنديل. لكن في الأشهر الاخيرة اعادت الادارة مراجعة مواقفها، ويقول مصدر اميركي ان وزارة الخارجية والمؤسسة العسكرية قررتا ترك مسؤولية اعادة هؤلاء المقاتلين، للحكومة العراقية وليس للاميركيين، مع الادراك بأن هذا القرار قد يؤخر العملية سنوات.

على مدى سنتين ، ظلت انقرة تضغط على واشنطن لإزالة الوجود الكردي التركي المسلح من شمال العراق، واشارت تركيا اخيرا الى ان حوالي 3 الاف مقاتل كردي دخلوا الى اراضيها لإعادة اشعال الوضع. وخلال وجوده في انقرة قال الجنرال بايس إن بلاده تعارض قيام دولة كردية مستقلة، وانها ملتزمة القضاء على مقاتلي حزب العمال الكردي.

أثار رفض الولايات المتحدة مواجهة مقاتلي حزب العمال الكردي غضب الاتراك، وخصوصاً في البرلمان، حيث دعا بعض اعضائه الى ان ترفض انقرة التعاون مع الولايات المتحدة ضد البرنامج النووي الايراني، لذلك تجنب الجنرال بايس الاشارة الى حاجة بلاده الى مثل هذا التعاون في الوقت الحالي، «لأن واشنطن لا تخطط الآن لعملية عسكرية ضد ايران (...) هناك امور كثيرة يمكن عملها قبل ان نصل الى الخيار العسكري».

في شهر كانون الاول (ديسمبر) الماضي، وفي ندوة مغلقة عُقدت في لندن، تحدث احد الخبراء الاتراك عما يمكن ان تواجهه حكومة اردوغان في سنة 2006 فقال :«ان نمو الحس الوطني لدى الاكراد، والارهاب الاثني، سيشكلان الخطر الاكبر على الاستقرار، وان حكومة اردوغان تعتقد ان الجو الليبرالي الذي يعم تركيا بسبب عضوية الدخول الى اوروبا، منعها من تعليق نشاط السلطات المحلية الكردية في جنوب شرقي تركيا، التي يسيطر عليها «حزب المجتمع الديموقراطي»، والذي هو واجهة لحزب العمال الكردي. وقال ان السلطات الامنية التركية صارت ترى ان السكان في بعض اجزاء المنطقة الكردية يخافون منها اقل من خوفهم من مقاتلي الحزب الكردي.

وعن موقف تركيا من العراق قال يومها الخبير التركي ان وضع العراق سيكون من اولويات اهتمامات السياسة الخارجية التركية. ان انقرة ستظل تحاول تأمين التزام سوريا وايران والجامعة العربية، تجاه وحدة اراضي العراق، مع العلم انها صارت متقبلة بروز سلطة الاكراد في الشمال، والشيعة في الجنوب، وتوقع ان تجري انقرة اتصالات مع الزعيمين الكرديين جلال طالباني، ومسعود البارزاني، وتعرض عليهما سراً دعمها شرط ان يأخذا في الاعتبار المصالح التركية. وعدّدَها قائلاً: إبعاد مقاتلي حزب العمال الكردي، عدم المطالبة بالسيطرة الاحادية على مدينة كركوك ونفطها، واستيعاب الاقلية التركمانية في شمال العراق. واشار الى ان السلطات التركية اجازت رحلات جوية تجارية مباشرة الى اربيل والسليمانية في كردستان العراقية، كما ان عددا من رجال الاعمال الاتراك بدأوا يستثمرون هناك.

اما عن ايران فقال الخبير التركي في تلك الندوة المغلقة، ان انقرة ستظل تساوم مع طهران بخصوص اسعار الغاز الطبيعي الايراني، وفرص الاستثمار التي ستُعطى للشركات التركية في ايران، «لكن التقدم في هذين الحقلين سيبقى محدوداً».

قبل ان تبدأ المواجهات مع المتظاهرين الاكراد، بدأت مواجهة رئيس الوزراء اردوغان مع الرئيس التركي احمد نجدة سيزر ومع المؤسسة العسكرية. اعتاد سيزر ان يطلب من الحكومة مراجعة عدد من المراسيم قبل ارسالها اليه للتوقيع. وفي 25 من الشهر الفائت رفض التوقيع على مرشح اردوغان لتسلم حاكمية المصرف المركزي. لم يكن هذا بالامر غير المتوقع. المعروف عن الرئيس التركي انه علماني ملتزم، في حين ان مرشح رئيس الحكومة ليكون حاكم المصرف المركزي، عدنان بايوكدنيز، هو رئيس بيت المال الاسلامي: «البركة ترك»، الذي أُنشئ برأسمال عربي. وكان اعلان اردوغان قبل ذلك انه قادر على اختيار الحاكم الذي يريد، اشارة الى انه لا يرغب في تجنب معركة مع الرئيس. وكما قال لي مصدر تركي، ان اردوغان اختار القضية الغلط في الوقت غير المناسب، لأن رفضه تمديد فترة الحاكم الحالي ، سورييا سردنجشتي، الذي نجح في سياسته المالية التي حدت من التضخم، اثار انتقاد رجال الاعمال، كما ان تأخره في اختيار البديل وعدم الكشف عن اسمه هزّ السوق المالي واثرّ على الليرة التركية، ثم انه حدث لغط داخل حزب العدالة والتطور الحاكم ، بسبب رفض اردوغان السماح بتحقيق نيابي في اداء وزير المالية، كمال اوناكيتان، المتهم بأنه سمح لافراد عائلته بالاستفادة من منصبه الحكومي.

على كل، هذه المشاكل ليست شيئاً يُذكر مقارنة بإسقاط البرلمان تحقيق دعمه اردوغان، يتعلق بدور الاجهزة الامنية في تفجير مكتبة ، في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي في مدينة سمدينلي في الجنوب الشرقي، يديرها متعاطف مع حزب العمال الكردي. اثناء التحقيق، خرق رئيس اللجنة وهو نائب من حزب العدالة والتطور، كل القوانين التركية ومرر الى مدعي عام «فان»، معلومات عن رجل اعمال كردي اتهم ثاني اكبر ضابط في الجيش التركي، الجنرال يشار بايوكانيت قائد القوات البرية، بأنه وضباطاً آخرين متورطون في عمليات امنية غير شرعية.

المدعي العام طلب من قيادة الجيش التحقيق في الاتهام. وفسرت القيادة العسكرية هذا الامر على انه جزء من حملة اسلامية لعرقلة تعيين بايوكانيت رئيساً للاركان عندما يتقاعد الجنرال حلمي اوزكوك في شهر آب (اغسطس) المقبل. والاخير يُعتبر معتدلاً، في حين ان بايوكانيت علماني وشوفيني متطرف.

اصر الجنرال اوزكوك على ان تدافع الحكومة عن المؤسسة العسكرية، لأن مثل هذا الاتهام يسيء الى حملتها ضد الارهابيين. وبعد تردد، تراجع اردوغان واعلن تأييده لترقية الجنرال بايوكانيت، ثم اصدر وزير العدل امرا بفتح تحقيق في اداء مدعي عام «فان».

وبسبب انتقاد العسكر دعوة الحكومة التركية رئيس حركة حماس خالد مشعل لزيارة انقرة، اضطر اردوغان الى الغاء اجتماع كان مقرراً مع مشعل، الذي قابله وزير الخارجية عبد الله غول. وكان اردوغان تراجع عن قرارات كثيرة اتخذها، منها: تسهيل الجامعات شروط قبولها متخرجي الكليات الاسلامية، وتجريم الزنا والسماح للنساء بارتداء غطاء الرأس في الجامعات والمؤسسات الرسمية.

ان عدم بروز زعماء اتراك آخرين يتمتعون بشعبية، يعني ان اردوغان باق، رغم كل الاخطار التي يسببها لنفسه، وطالما ان الوضع الاقتصادي التركي مستقر. لكن تجدر الاشارة الى ان صبر الناس على اجراءات البنك الدولي، بدأ ينفد.

رؤساء وزراء سابقون مثل تورغوت اوزال وسليمان ديميريل، عاشوا تجارب اردوغان نفسها واختاروا التخلي عن متاعب مقر رئاسة الحكومة، والارتياح في قصر رئاسة الجمهورية، وهذا حسب محدثي ما يفكر به اردوغان عندما تنتهي ولاية الرئيس سيزر في شهر ايار (مايو) من العام 2007، اي قبل ستة اشهر من اجراء الانتخابات البرلمانية. لكن معركته لن تكون سهلة، لأن الاحزاب العلمانية لا ترغب في رؤية حزب العدالة والتطور، بجذوره العميقة في الاسلام السياسي، يسيطر على الحكومة والرئاسة معاً.

هذا يعني احتمال تواطؤ تحركات عسكرية وعلمانية لإحداث انشقاق في حزب العدالة والتطور، والتمهيد لقيام تحالف من اليمين الوسط، إما لتقديم موعد الانتخابات النيابية، او لمنع سيطرة حزب اردوغان على منصبي رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء.