لماذا أحترم محمد الماغوط؟

TT

قد اكون آخر من يحق له التحدث عن محمد الماغوط. ومع ذلك فسوف اكتب عنه مقالة كاملة! فأنا لا اعرفه شخصيا (ولكن هذه قد تكون ميزة)، وثانيا أنا غير مطلع على معظم انتاجه ما عدا بعض القصائد الرائعة، الطرية، الفوضوية، العدمية..

تعجبني اولا فيه عدميته، التي تصل احيانا الى حد الفوضى الجنونية والتي بدونها لا يمكن ان يكون هناك اي شعر. عندما تموت العدمية الخلاقة في اعماق الشاعر يموت الشعر. فالشاعر يتحول عندئذ الى رجل موظف (في بنك مثلا)، رجل حسابات صغيرة او تكتيكات انتهازية، وعلاقات عامة تقضي على كل شيء اسمه شعر او فكر. الشعر لا يزدهر الا في جو العدم، والفراغ، والمحال.. الشعر كتابة مجانية: اي لا نفعية باجرة. في الشعر من يخسر يربح كما يقول جان بول سارتر. والشاعر الحقيقي هو ذلك الذي اختار ان يخسر حتى الموت لكي يربح! انظر بودلير، رامبو، فيرلين.. ماذا ربحوا من حياتهم الا المرارات والخذلان؟..

هنا يكمن مقتل كبار الشعراء العرب او الذين كانوا كبارا يوما ما.. لقد استسلموا للسهولة والاغراءات واضواء الشهرة بدلا من ان يشتبهوا بها ويعتبروها عدوهم الاول. ويخيل اليّ ان محمد الماغوط لم يكن يركض وراء الجوائز والتشريفات، وانما هي التي ركضت وراءه. ولم يكن يبحث عن العالمية لانه كان يعرف ثمنها المدفوع سلفا عدا ونقدا. اذ ما معنى ان تربح العالم كله وتخسر نفسك؟!

وبالمناسبة فإن جائزة نوبل العربية للآداب (اي سلطان العويس) تأخرت قليلا او حتى كثيرا بالنسبة له. كان ينبغي ان تعطى له منذ سنوات طويلة فهو يستحقها اكثر من بعضهم بكثير.. ولكن لا بأس بها حتى ولو جاءت متأخرة وسبقت الموت بأسابيع قليلة. فربما ادخلت بعض الفرحة الى قلبه قبل ان يرحل، هو الذي كان مولعا بالتسكع والرحيل..

وانا اتسكع تحت نور المصابيح

انتقل كالعواهر من شارع الى شارع

أشتهي جريمة واسعة

وسفينة بيضاء تقلنّي بين نهديها المالحين

الى بلاد بعيدة،

حيث في كل خطوة حانة وشجرة خضراء،

وفتاة خلاسية،

تسهر وحيدة مع نهدها العطشان

بمثل هذه المقاطع وسواها، استطاع محمد الماغوط ان يخلع على قصيدة النثر مشروعية كاملة في الساحة الثقافية العربية. وهذا انجاز ضخم لا يستهان به. لقد قدم للغتنا العربية امكانية التحول الى لغة عادية، يومية، مفعمة بنبض الواقع، ودون ان تفقد شحنتها الشعرية. لقد خلق شعرا جديدا، او قل اسس حداثة داخل الحداثة عندما انتقل بالشعر العربي من قصيدة التفعيلة الى قصيدة النثر الكامل. وهكذا خطا بالشعر العربي خطوة اضافية بالقياس الى شعراء الحداثة الأوائل الذين ظلوا مسجونين داخل اطار القصيدة الايقاعية.

لكن تجديد الماغوط لم يكن فقط شكليا وإنما كان مضمونيا ايضا، وقد أصاب الفكر العربي في العمق. فموقف التمرد العدمي او الفوضوي الذي اتخذه كان خصبا جدا ومنتجا الى أبعد الحدود. والواقع هو انه الموقف الوحيد الممكن في حصار الشعر والوجود. فماذا يمكن ان تفعل تجاه واقع مسدود من كل النواحي انه مسدود سياسيا، ومسدود تراثيا، ومسدود اخلاقيا، وجنسيا، وكل شيء... من هنا تنتج الشحنة التحريرية الهائلة لشعر الماغوط وادونيس في مراحله الأولى وبقية شعراء الحداثة العربية. لقد فتحوا ثغرة في جدار التاريخ المسدود كما تقول سنية صالح في عبارة رائعة: «مأساة محمد الماغوط انه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط!» ومنذ مجموعته الأولى «حزن في ضوء القمر» وهو يحاول ايجاد بعض الكوى او توسيع ما بين قضبان النوافذ ليرى العالم ويتنسم بعض الحرية».

من يستطيع ان يقول افضل من هذا الكلام الآن؟ هذا الكلام أقوى من كل شعر لأنه يجمع، في ضربة واحدة، بين الشكل والمضمون، بين الشعر والفكر.

لحسن الحظ فان محمد الماغوط لم يتزوج بعد موت سنية صالح الفاجع. وربما لهذا السبب احترمه اكثر من أي شيء آخر. وقد يعتبر هذا الكلام تدخلا في الحياة الشخصية للناس. ولكنه ليس شخصيا الى الحد الذي يتصورونه. انه يخص قضية عامة شديدة الخطورة ولا استطيع ان اتوقف عندها في هذه العجالة. كل ما استطيع قوله هو ان وفاء محمد الماغوط لزوجته الأولى، والوحيدة، يستحق الاكبار والاعجاب حقا. وهو وفاء ظاهر حتى في آخر مقابلاته. انه يقدمها على نفسه حتى شعريا. ولا يمل من تكرار مآثرها والحديث عنها. ألا يكفي ذلك للاعجاب به؟ نقول ذلك وبخاصة اننا نحن العرب نأنف من التعبير عن حزننا على المرأة. وربما اعتبرنا ذلك عيبا او انتقاصا من قيم الفحولة والرجولة.. وبالمناسبة اوجه التحية الى المفكر اللبناني الصديق علي حرب الذي فقد زوجته مؤخرا ورثاها بنص جميل ومؤثر في «السفير».

فهل نشهد تحولا في القيم العربية يا ترى؟ هل سننتقل من عصر المسكين جرير الذي كان يخشى اظهار الحزن على زوجته الى عصر آخر؟

لولا الحياء لهاجني استعبار

ولزرت قبرك والحبيب يزار...

لماذا اشكر محمد الماغوط على موقفه هذا؟ ليس فقط من اجل الوفاء والاخلاص للحب الأول وإنما لأنه جنب ابنتيه جحيم العيش في ظل امرأة اخرى وتحت نفس السقف!. وهذا موقف انساني رائع لا يمكن ان يصدر إلا عن رجل حديث، حضاري، عرف معنى العذاب:

فأنا أسهر كثيرا يا أبي

أنا لا أنام..

حياتي، سواد وعبودية وانتظار

فأعطني طفولتي..

وضحكاتي القديمة على شجرة الكرز

وصندلي المعلق في عريشة العنب..