أريحونا.. وارتاحوا

TT

بعد ربع قرن على «تسويق» الباعة المتجولين في شوارع رأس بيروت لأغنية الطيب الذكر، فيلمون وهبي «ترلم... ترلم»، اكتشف اللبنانيون أنه كان على حق في وصفه لمشاعرهم، آنذاك، حيال الطبقة السياسية المتحكمة في حربهم الأهلية.

إلا ان المؤسف ان ربع القرن الأخير من التجربة والخطأ في الحياة السياسية اللبنانية لم يغير شيئا، لا في اسلوب التخاطب ولا في الذهنية السائدة على مستوى الحكم، فيوم الشتائم الطويل الذي اعقب يوم القمة العربية في الخرطوم، لم يكن حالة «انفلات عقال» استثنائية في مستوى التخاطب السياسي بين المسؤولين بقدر ما كان، وربما للمرة الاولى، تعبيرا طبيعيا وصريحا للمشاعر المكنونة والآراء الدفينة.

فصول الحياة السياسية اليومية في لبنان باتت، كفصول مسرحيات المؤلف الفرنسي الشهير، موليير، أقرب الى المأساة ـ الملهاة منها الى البراغماتيكية التي تفترضها، ان لم تفرضها، دقة المرحلة الانتقالية من دولة مخابراتية ـ ولو بالوكالة ـ إلى دولة ديمقراطية ذات سيادة.

وإذا كانت عقدة «الملهاة» السياسية في لبنان اليوم هي التغيير الرئاسي فان «مأساتها»، ذلك الشلل القاتل لاقتصاد بلد كامل اصبح رهينة مطلب، من جهة، وشخص واحد، من جهة أخرى.

باي منظور براغماتيكي، مطلب التغيير الرئاسي فات أوانه، لبنانيا وإقليميا:

ـ لبنانيا، يوم تجاهل جمهور 14 آذار (مارس) 2005 دعوة رئيس اللقاء الديمقراطي، وليد جنبلاط، للتوجه الى قصر بعبدا ومحاصرته الى ان يستقيل سيد القصر. يومها فقط كانت «اللحظة التاريخية» مواتية لبلوغ «ثورة الارز» الاستقلالية هدفها النهائي وربما تحقيق أول انتفاضة لبنانية متحررة الى حد بعيد عن الخلفيات الطائفية والحسابات المصلحية.

أما وقد فاتت «لحظة» التغيير الرئاسي التاريخية، فقد غاص مطلب التغيير، بل غرق حتى أذنيه، في تعقيدات الامر الواقع اللبناني التي لا تنفصل، في نهاية المطاف، عن متطلبات الامر الواقع العربي، فلا غرابة ان يصب «اللاتغيير» في الموقع الرئاسي في خانة مصلحة النظام السوري، طالما بقي استقرار النظام السوري مرتبطا، بشكل أو بآخر، باستقرار الانظمة العربية.

عمليا، هذا الواقع الجغرافي ـ السياسي كان المعطى الذي اتاح للتيار العوني، فرصة مواتية لكبح مسيرة «ثورة الارز» الاستقلالية، فكان طبيعيا ان يؤدي توسله لعبة الامر الواقع المحلي ـ الاقليمي، وان لغايات محض شخصية، الى تحالف «تكتيكي» مع المراهن اللبناني الأول على التحولات الاقليمية، أي حزب الله.

ـ إقليميا، وان كان يصعب فصل العامل الاقليمي عن العامل الداخلي في هذه المرحلة التي حلت فيها الولايات المتحدة «جارة» عزيزة على سورية ولبنان في الشرق الاوسط، تسهل الملاحظة بأن رياح التغييرالخارجية للحالة اللبنانية لم تعد تجري بالزخم الذي كانت عليه إثر اغتيال الرئيس الحريري عام 2005، فالحالة العراقية اصبحت أكثر تداخلا مع الحالة الايرانية، والحالة السورية اكثر التصاقا بالحالة الايرانية والحالتان الايرانية والسورية أكثر ضغطا على لبنان.. فيما لم تقرر واشنطن بعد أسلوب تعاملها مع الملف الايراني النووي ولم تصل، حتى، إلى موقف موحد مع حلفائها الاوروبيين.

لذلك، ولأن المطالبة بالتغيير الرئاسي في لبنان هدرت فرصتها التاريخية، ولأن الحرص على استقرار المنطقة العربية بات ـ مرحليا على الاقل ـ مرتبطا باستقرار النظام السوري ايضا،

ولأن المجتمع الدولي لا يحبذ تغييرا رئاسيا بواسطة الشارع اللبناني (كما أوضح «مصدر رفيع في السفارة الاميركية» في حديث مع «الشرق الأوسط»)،

ولأن الديمقراطية اللبنانية المتفق على واقعها التوافقي لن تسمح بغير رئيس توافقي للبنان ـ لا رئيس «قوي» في طائفته فحسب ـ بات المطلوب من الاكثرية البرلمانية أن تريح أعصاب اللبنانيين وترتاح هي ايضا وتعود الى البراغماتيكية السياسية في تعاملها مع الملف الرئاسي.

قرار إرجاء انعقاد جلسات الحوار الوطني الى 28 الشهر الحالي، قد يكون فرصة الاكثرية البرلمانية لأن تعيد حساباتها في مطلب استقالة او اقالة الرئيس لحود على ضؤ معادلات الامر الواقع اللبناني أولا فوجود رئيس للبلاد يصح فيه الوصف الاميركي بـ«Lame Duck» يعطيها الكلمة الاولى في إدارة شؤون البلاد ـ رغم كل ما يقال عن سلطة «التعطيل» التي تتمتع بها الرئيس اللبناني ـ ويتيح لها الفرصة المطلوبة لاعادة تحريك عجلة الانتاج ومعالجة الوضع المعيشي المتدهور في البلاد.. الى ان تتضح نهائيا صورة التحولات الاقليمية.

ولأن التحولات الاقليمية «سيف ذو حدين»، فإن بقاء لحود رئيسا لقصر بعبدا وجواره (الضاحية الجنوبية والرابية)، للسنة والنصف المتبقية من رئاسته الممدة، من شأنه ربط مصير من اتفق على تسميته بـ«المرشح الجدي» للرئاسة ـ وكأن المرشحين الآخرين «هزليين» ـ أي العماد ميشال عون، بهذه التحولات أكثر فأكثر.

.. وهنا الرهان الكبير على «اسم» رئيس لبنان المقبل.