ابن الجيران والقراصنة

TT

كان الإمام أحمد بن حنبل في الخامسة عشرة من عمره حينما جاء إلى بغداد أحد العلماء البارزين ليستقر على الضفة الأخرى من نهر دجلة، وكان طلاب العلم ينتقلون إليه رغم فيضان النهر، ونفس إمامنا تتوق إلى أن تنهل مثلهم من معارف ذلك العالم، لكنه لم يفعل لمجرد أن أمه كانت تخاف عليه من ركوب النهر أثناء فيضانه، فبقي بقربها لتطمئن عليه برا بها.

تذكرت هذه الإضاءة من سيرة الإمام أحمد وأنا أستمع لقصة ابن الجيران الذي ألفت أن أراه طفلا نحيلا خجولا منطويا على نفسه، وكيف استطاع البعض التأثير عليه ليختفي ذات مساء غير عابئ بمشاعر والديه.. فلم تمض سوى أيام معدودة حتى تلقت الأسرة نبأ مقتله وحيدا غريبا بعيدا في العراق، وهو بعد لم يتجاوز الثامنة عشرة من العمر.

كانت الأم المكلومة تروي قصته للنسوة المعزيات، وتصف كيف جاءها خبر وفاته عبر مكالمة هاتفية من مجهول يزف إليها النبأ بدم بارد، ويطلب منها أن تفرح وتزغرد وتبتهج، وحينما تعالى نشيجها عنَفها ذلك المتصل وأغلق سماعة الهاتف في وجهها وابتلعه المجهول.

إن هذا الفتى الذي غدر به فكريا ليترك أهله وداره ووطنه يمثل حالة واحدة ربما من آلاف الحالات التي وجدت نفسها منقادة في مرتفعات تورا بورا أو معتقلات غوانتانامو أو سهوب العراق من دون وعي كامل بمشروعية ما يقومون به، وهذه التحولات لم تحدث من فراغ، فصناع هذه التحولات المفاجئة لا بد أن لهم أساليبهم النفسية السحرية القادرة على انتزاع الفتيان من أجوائهم العائلية الدافئة وحياتهم الاجتماعية الهادئة ليمتطوا صهوة عاصفة تودي بمن تحمل إلى دروب من المخاطر، فالذي ينجو من الموت لا يسلم من الاعتقال.

وكما كان شبابنا يباعون ويشرون في أفغانستان بعد 11 سبتمبر من قبل العصابات المنظمة التي تتاجر بالإيقاع بهم في قبضة الأميركان فإنهم في العراق يواجهون مصيرا أكثر صعوبة عبر استغلالهم من قبل بعض الجماعات المسلحة التي تحولهم إلى انتحاريين من دون علمهم. ولذا فإن المسؤولية التربوية التي تقع على عاتق الأسرة المعاصرة على درجة من التعقيد بحيث تتطلب نضجا يقي النشء من الوقوع فرائس سهلة في أيدي القراصنة الذين ينجحون في تسميم الأدمغة الفارغة من الوعي، إذ ليس من المقبول أن تستمر أسر الضحايا في تعليق الأمر على شماعة رفاق السوء، وتنسى تلك الأسر أو تتناسى أن سلبيتها في التربية أفقدت أبناءها بوصلة الصواب، فقادهم المتربصون إلى دروب الردى ومسالك الهلاك.

[email protected]