الوضع الفلسطيني: من اختراقات العرب.. إلى الاختراقات الإيرانية

TT

لم تعانِ حركة تحرير مسلحة، ربما على مدى حقب التاريخ وفي العالم كله، كما عانت حركة التحرر الوطني الفلسطيني منذ انطلاقتها في عام 1965، حيث ابتليت بتعددية فوضوية وهي تعرضت لمحاولات دءوبة، مستمرة ومتواصلة، لغزوها من الداخل من خلال فصائل وتنظيمات ترفع لافتات وشعارات تحرير فلسطين، وهي في حقيقة الأمر مجرد امتدادات إقليمية ومجرد خلايا وبؤر علنية لمخابرات بعض الدول العربية.

باستثناء التجربة الأفغانية التي انتهت نهاية بشعة ومأساوية، فإن حركات التحرر المسلحة، العربية وغير العربية، لم تبتل بظاهرة غزو النفوذ الإقليمي لها من الداخل، كما ابتليت الثورة الفلسطينية فالثورة الجزائرية التي هي إحدى ظواهر القرن العشرين ومفخرة انتزاع الاستقلال والسيادة الوطنية من الأجنبي بالفعل لم تسمح بأي تنظيم أو منظمة أو فصيل خارج إطار جبهة التحرير، التي اعتبرت الإطار الأوسع الذي كان على كل من أراد «الجهاد» ضد الاستعمار والهيمنة الأجنبية أن يلتحق به ويعمل من داخله.

لقد بدأ غزو التجربة الفلسطينية من داخلها في وقت مبكر، فعندما انعقد المجلس الوطني الفلسطيني الأول في القدس في عام 1964، وهو المجلس الذي انبثقت عنه منظمة التحرير بقيادة أحمد أسعد الشقيري، كان التمثيل فيه عربياً أكثر مما كان فلسطينياً، فمراجعة أسماء الأعضاء الذين شاركوا في ذلك المجلس تكشف أن غالبية هؤلاء، إن لم يكن كلهم، كانوا إما من مواطني بعض الدول العربية المجاورة مثل سوريا والعراق والأردن ومصر، أو محسوبين على هذه الدول وغيرها.

في تلك الفترة المتقدمة كانت تجربة «جيش الإنقاذ» الذي شكله العرب، على أساس المحاصصة، للتصدي للحركة الصهيونية ومنعها من إقامة دولة عبرية في فلسطين لا تزال طرية وماثلة للعيان، ولذلك فقد حرصت بعض الدول على ان تكون ممثلة في المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول، الآنف الذكر، ليس من أجل القيام بـ«الواجب القومي المقدس»، وإنما من أجل تقاسم الوصاية على الشعب الفلسطيني وعلى قضيته، والدليل على هذا أن اللجنة التنفيذية التي انبثقت عن المؤتمر الآنف الذكر، ضمت أعضاءً عرباً كانوا يمثلون هذه الدولة العربية أو تلك هذا علاوة على ان رئيس هذه اللجنة أحمد الشقيري، اعتبر بحق أو بغير وجه حق، أنه كان موظفاً مصرياً وأنه كان يمثل الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وسياساته العربية، أكثر من تمثيله لفلسطين والشعب الفلسطيني، الذي كان في تلك الفترة يعيش حالة ضياع مأساوية ومدمرة.

لقد بقي هذا الوضع قائماً ومستمراً الى ان أطلقت حركة «فتح»، التي كانت لا تزال في بدايات تأسيسها عندما انعقد المجلس الوطني الفلسطيني الأول المشار إليه آنفاً، الثورة الفلسطينية المعاصرة في الفاتح من يناير (كانون الثاني) 1965 والمعروف أن هذه الحركة كانت قد اعتبرت أن مبرر إنشائها ووجودها هو توحيد الشعب الفلسطيني خلف هدف واحد وصهره في تنظيم وطني موحد بعد أن أثبتت التجربة أن توزُّع أبناء هذا الشعب على التنظيمات العربية المتعددة المتضاربة والمتعارضة والمتقاتلة، كان على حساب شعب فلسطين وعلى حساب قضيته. ربما لا يعرف البعض أن حركة «فتح» قد نصت في نظامها الداخلي على ان كل فلسطيني لا ينتمي الى أي حزب، وأي تنظيم آخر هو عضو في هذه الحركة بصورة تلقائية، وربما لا يعرف البعض ان الحركة المذكورة بقيت تحاذر كثيراً في قبول مواطنين عرباً أعضاءً فيها، وبخاصة بالنسبة لمحطاتها القيادية العليا ولجنتها المركزية. لا شك في أن حركة «فتح» حاولت الأخذ بحذافير تجربة الثورة الجزائرية، وأن تمنع قيام تنظيمات أخرى الى جانبها في الساحة الفلسطينية، لكنها أمام ضغط الدول العربية المجاورة، وعلى وجه التحديد سوريا ومصر والعراق لم تستطع ذلك، فانفجرت ظاهرة التنظيمات المسلحة في مطلع ستينات القرن الماضي انفجاراً هائلاً، ووصل عددها في نحو منتصف ذلك العقد الى نحو عشرين تنظيماً ومنظمة.

لم تستطع هذه الحركة أن تحتوي هذه التنظيمات والمنظمات كلها لاحقاً، كما إحتوت بعضها عند التأسيس في سنوات سابقة، وهكذا وبفعل تزاحم الأنظمة العربية، المتلهفة للحصول على ما يسمى شرعية الجهاد والثورة، أمام بوابة القضية الفلسطينية فقد تكاثرت «تكاثراً بكتيرياً»، بعد حرب يونيو (حزيران)، التنظيمات التي رفعت شعار تحرير فلسطين، فاختلط الحابل بالنابل وتسببت شدة الازدحام الى فوضى عارمة لاتزال، وإن بصورة أقل، مستمرة حتى الآن!! لقد سارعت بعد كارثة يونيو (حزيران) كل الأنظمة العربية المحاددة لفلسطين والمحيطة بها، باستثناء لبنان والأردن، الى إنشاء تنظيماتها الخاصة. فسوريا أنشأت منظمة «الصاعقة» واحتوت الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة ـ وجبهات وتنظيمات صغيرة أخرى، وأنشأ العراق بعد وصول الشق الآخر من «البعث» الى السلطة في عام 1968 جبهة التحرير العربية، ومصر (الناصرية)، اعتمدت في البداية على ضابط أردني متقاعد اسمه أحمد زعرور، وأنشأت تنظيمها الفلسطيني، كما كانت أنشأت منظمة سيناء العربية، لكنها ما لبثت ان تخلت عن هذين التنظيمين واستبدلتهما بتبني الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومدِّ صلات وصل مع تنظيمات صغيرة أخرى بعضها انتهى، وبعضها بقي مجرد أسماءٍ وإطارات بلا أي محتوى أو مضمون.

وأمام ظاهرة هذا «الزحف العروبي» لاختراق الساحة الفلسطينية من الداخل بتنظيمات بعضها حقيقي، والبعض الآخر وهمي، فقد اضطر ياسر عرفات، الذي أصبح رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في عام 1968، الى فتح أبواب هذه اللجنة لكل الامتدادات العربية التنظيمية في الجسم الفلسطيني، فغدت بمثابة سفينة نوح التي بعد إبحار طويل استقرت فوق «الجـُودي» بكل ما هب ودب من البشر والكائنات الحية.

ثم في وقت لاحق شهدت الساحة الفلسطينية ذروة انتعاش امتداد نفوذ الانظمة العربية داخل الجسم الفلسطيني، والمعروف ان الحرب الأهلية اللبنانية وتجربة جمهورية «الفاكهاني» قد شكلتا حاضنة لهذه الحالة المرضية، التي لم يبدأ تراجعها إلا بعد الغزو الإسرائيلي للبنان، ورحيل منظمة التحرير بكل فصائلها عن بيروت واستقرار معظمها في دمشق، بينما استقرت حركة «فتح» ومعها منظمة التحرير في تونس.

في هذه المرحلة حيث بدأت تتلاشى تنظيمات الأنظمة العربية داخل الساحة الفلسطينية ومن بينها منظمة «الصاعقة» الموالية لسوريا وجبهة التحرير العربية الموالية للعراق وبعض التنظيمات الهامشية والوهمية الأخرى الموزع ولاؤها بين هاتين الدولتين، بدأت تظهر حركة المقاومة الإسلامية «حماس» التي أرادها التنظيم العالمي لـ«الإخوان المسلمين» بديلاً لمنظمة التحرير ولحركة «فتح» والتي ثبت أخيراً أن إنشاءها كان بدعم وبـ«مباركة» من إيران، التي باتت تسعى بعد انتصار ثورتها الإسلامية لدور إقليمي بحجم حجمها الجديد في المنطقة كلها، ومن ضمنها فلسطين بالطبع.

لقد بقيت حركة «حماس»، التي جاءت ولادتها في ذروة تعاظم اشتعال الانتفاضة الأولى، ترفض الانضمام الى منظمة التحرير الفلسطينية، رغم كل المغريات التي قدمها لها ياسر عرفات، وبقيت تحاول إزاحة حركة «فتح» من أمامها ثم جاءت الفرصة الذهبية لتضرب حركة المقاومة الإسلامية ضربتها أولاً، عندما انهارت عملية السلام بعد فشل كامب ديفيد الثانية، وثانياً عندما وقعت كارثة واشنطن ونيويورك في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، وثالثاً عندما لم يعد الرئيس الفلسطيني الراحل يستطيع السيطرة على الانتفاضة الجديدة التي سميت «انتفاضة الأقصى»، والتي حولتها حركة المقاومة الإسلامية بقرار مدروس، من انتفاضة جماهيرية شعبية، الى انتفاضة مسلحة وانتفاضة عمليات انتحارية، وصواريخ استعراضية كرتونية. والآن وقد أصبحت حركة «حماس» في موقع المسؤولية، بعد الفوز الذي حققته في الانتخابات التشريعية الأخيرة وبعد تشكيل الحكومة الجديدة، فإن التدخل الخارجي في شؤون الفلسطينيين، قد أصبح أكثر خطورة، إذْ بالإضافة الى استمرار بعض الاختراقات العربية السابقة، فإن الاختراق الإيراني الذي بات واضحاً وضوح الشمس، غدا عاملاً رئيسياً في رسم أدق السياسات الفلسطينية المصيرية..!