المأزق الأمريكي بعيون أمريكية

TT

تهيمن على الكتابات الإستراتيجية الأمريكية الأخيرة، النغمة النقدية الصارمة لمسار السياسة الخارجية لإدارة الرئيس بوش، منذ تمحورت بعد زلزال 11 سبتمبر 2001 حول هدف محاربة الإرهاب.

ومن المعروف أن الإستراتيجية الأمريكية لمحاربة الإرهاب قد تأسست على مبدأين أساسيين، هما من جهة الضربة الاستباقية لحماية الأمن الحيوي الأمريكي داخليا وخارجيا، ومن جهة أخرى نشر الديمقراطية وتقويض الأنظمة المستبدة واستخدام الضغط العسكري مسلكا لفرض الحرية من منطلق العلاقة العضوية بين تعميم الديمقراطية وضمان الأمن الأمريكي الداخلي.

وما كشفت عنه الدراسات الأمريكية الأخيرة، هو إخفاق هذه الإستراتيجية في بعديها الأمني العسكري والسياسي القيمي، مما بدأ يقر به حتى أركان الإدارة، وفي مقدمتهم وزيرة الخارجية كونداليزا رايس، التي اعترفت في الأسبوع الماضي، خلال مؤتمر صحفي جمعها مع وزير الخارجية البريطاني سترو، بأن بلادها ارتكبت آلاف الأخطاء في حرب العراق، حتى لو كانت تمسكت بسلامة قرار الحرب وشرعيته. فبخصوص المحور العسكري الأمني، لاحظ دانيال بنيامين وستيفن سيمون، (العضوان السابقان في مجلس الأمن القومي في عهد الرئيس السابق كلينتون) في كتابهما الصادر مؤخرا بعنوان «الهجمة القادمة»، أن الفشل الأمريكي الذريع في حرب العراق قوض بصفة جذرية نموذج «الضربة الاستباقية»، الذي يشكل في آن واحد جوهر المقاربة الأمنية الداخلية لتفادي العمليات الإرهابية (بما يعنيه الأمر من إلغاء كامل لمدونة الحقوق السياسية والمدنية التي قامت عليها التجربة الأمريكية)، وجوهر المقاربة الإستراتيجية الخارجية (بما يتصادم موضوعيا مع منظومة التشريعات والقوانين الدولية).

فهذه المقاربة، وإن كانت تتحرى تفادي ثغرات وقيود إستراتيجية الردع التقليدية، التي تبلورت في الحرب الباردة وأثبتت نجاعتها في مواجهة التهديد الشيوعي، إلا أنها تعاملت في نهاية المطاف مع الظاهرة الإرهابية بمنطق تقليدي، يتمثل في تحويل الصراع إلى مواجهة مع نظام ينعت برعاية الإرهاب ودعمه، من دون التفطن إلى خصوصيات ومميزات هذه الديناميكية التي تشكل تحديا جديدا لا تجدي في مواجهته أساليب الردع المألوفة.

وتبين النتائج العينية التي يقدمها المؤلفان أن الحربين الاستباقيتين اللتين خاضتهما أمريكا في أفغانستان والعراق، وإن نجحتا في إسقاط نظامين معاديين للولايات المتحدة، إلا أنهما لم تؤديا إلى الحد من خطر الإرهاب، بل قادتا إلى مضاعفته وتأجيجه. فالإدارة الأمريكية إذن أنفقت القدرات المالية الباهظة على حرب فاشلة، من دون أن تخصص التكاليف اللازمة لحماية الأمن الحيوي للبلاد في هذه المنافذ التي يتجذر فيها الخطر (كالأنظمة الالكترونية، والموانئ والمصانع الكيميائية..).

أما الجانب السياسي المتعلق بتصدير الديمقراطية، باعتباره محورا أمنيا واستراتيجيا مرتبطا بالمصالح الحيوية الأمريكية، فلم يفض إلى مكاسب نوعية، خصوصا في المنطقة المستهدفة بالأساس في هذه الإستراتيجية، أي منطقة الشرق الأوسط الكبير. ولا شك أن أهم شهادة في هذا المنظور، هي الشهادة التي يقدمها المفكر الأمريكي الذائع الصيت فرانسيس فوكوياما، في كتابه الأخير «أمريكا في مفترق الطرق: الديمقراطية، السلطة، وتركة المحافظين الجدد».

ولئن كان فوكوياما عرف بقربه من التيار المحافظ ودعمه لحربي أفغانستان والعراق، إلا أنه في كتابه الأخير يحكم بوضوح، لا لبس فيه، على الاستراتيجية الأمريكية في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر 2001 بالإخفاق والفشل، منتقدا بقوة الخلفية الايديولوجية لهذه الاستراتيجية، التي بلورها المحافظون الجدد القريبون من دائرة صنع القرار. ويجمل فوكوياما مبادئ هذه الايديولوجيا الراديكالية في أربعة منطلقات هي: اعتبار أن الطابع الداخلي للنظام السياسي هو مفتاح سلوكه الخارجي (فالأنظمة المستبدة من هذا المنظور لا بد أن تكون عدوانية خطرة على البلدان الديمقراطية). و اعتبار القوة العسكرية أداة فاعلة لخدمة وتجسيد الأهداف الأخلاقية (ومن ثم بناء شرعية الحرب على قاعدتها الأخلاقية لا مرجعيتها القانونية). وتوجس من التشريعات والمؤسسات الدولية بصفتها قيودا تحد من فاعلية القرار الاستراتيجي الأمريكي، وأدوات ضغط بيد أنظمة معادية أو فاسدة. واخيرا الشك في فاعلية الهندسة الاجتماعية الطموحة.

ويرى فوكوياما إن هذه الرؤية أفلست في الواقع العيني، ولم تنجح في جعل الولايات المتحدة والعالم أكثر أمنا، كما لم تؤد إلى نشر قيم الديمقراطية والحرية. ويعتبر فوكوياما إن خطأ استراتيجية إدارة بوش راجع إلى استسهال المقارنة بين الحالة السوفياتية الأوروبية الشرقية بعد انهيار جدار برلين، حيث كان الانتقال نحو الديمقراطية سهلا نسبيا والحالة الشرق أوسطية بعد حرب العراق، حيث ظهر ضعف المؤهلات الأمريكية في البناء السياسي وإدارة السلم.

ومن الواضح أن فوكوياما يراجع في كتابه الأخير مسلماته الأثيرة حول نهاية التاريخ وحتمية التوسع الديمقراطي مطالبا باستبدال القوة العسكرية بالقوة الرخوة (أي القيم والأفكار) لاستنبات النموذج الديمقراطي في الساحة الشرق أوسطية المتمنعة عليه.

إن ما نريد أن نخلص إليه من استعراض هذين النموذجين البارزين من الدراسات الاستراتيجية الأمريكية الأخيرة، هو أن نموذج الإصلاح الأمريكي الذي راهنت عليه طبقة سياسية واسعة في منطقتنا يعاني راهنا من مأزق حقيقي، سواء من حيث موجهاته العقدية والايديولوجية، أم من حيث أداؤه الإستراتيجي العيني.

ولئن كانت حرب العراق بذيولها المعروفة قد فرضت واقعا جديدا في الفضاء الشرق أوسطي الواسع، وحركت أجندة الإصلاح الداخلي الذي لم يعد مجرد خيار (بل ضرورة لا سبيل للتنصل من استحقاقاتها) إلا أن تفاعلاتها وانعكاساتها داخل العراق وخارجه أثبتت بوضوح حدود وثغرات مشروع الإصلاح الأمريكي أي خط تصدير الديمقراطية بالقوة.

ولا شك أن أحد متطلبات الإصلاح الديمقراطي الناجع هو فك الارتباط بين مقتضيات التغيير الموضوعية والتوظيف الايديولوجي لمطلب الإصلاح في الإستراتيجية الامريكية الراهنة.