تقنين الأحكام الشرعية

TT

سنتحدث، بحول الله، في هذا المقال وبعض المقالات المقبلة، عن مسألة مهمة كثر الحديث عنها، وتشعبت فيها الآراء، وهي مسألة تستدعي التأمل والشرح.

عنيت مسألة تدوين الأحكام الشرعية في القضاء، والبعض يطلق على ذلك مصطلح «التقنين»، وقد اختلف العلماء في ذلك، ما بين مؤيد ومعارض.

وقبل أن نفصل الكلام في هذه المسألة الهامة، فإننا نفتتح الحديث عن هذا الموضوع بمقدمة هامة، للتفريق بين مصطلحي «التدوين» و«التقنين».

فهناك من فرق بين الأمرين، لأن التدوين هو كتابة الاحكام الفقهية بصياغة يراها المدون مناسبة من حيث الوضوح، ومن حيث اشتمال المدونة على الأدلة والنصوص، وقد لا يقتصر على قول واحد من أقوال الفقهاء. بدون أن تكون على شكل مواد مرقمة ومسلسلة.

هذا عن التدوين، أما «التقنين» فهو صياغة هذه الأحكام على شكل مواد مرقمة ومسلسلة ومختصرة، ومستمدة من نصوص الشريعة الاسلامية، وهي تصاغ بأسلوب يغلب عليه طابع الانظمة، ويخلو من ذكر الادلة والنصوص الشرعية، طلبا للاختصار، وبحثا عن سرعة وصول الباحث الى النص الفقهي المطلوب، واقتصارا على قول واحد يعتبر هو الراجح من حيث الدليل والمصلحة.

وهذا شبيه بالمختصرات الفقهية المعروفة، والتي ألفها العلماء من اجل أن يحفظها الطالب، مقتصرين في كتابة هذه المتون على ذكر الاحكام بدون ايراد الأدلة.

بينما الدوين، هو اشبه بكتب المطولات الفقهية، التي ألفها العلماء لمن يريد معرفة الدليل وأقوال الفقهاء المختلفة، ومعرفة والراجح منها، خاصة لمن يملك آلة الاجتهاد.

اذا عرف هذا، فإنه يجب معرفة أن البعض، وهذا تنبيه مهم، يطلق على التدوين نفسه مصطلح التقنين والعكس ايضا، اي انه فرق لفظي بحت لدى هؤلاء.

والمراد بتدوين أو(تقنين) الفقه، هو تدوين أحكامه، أي تدوين أحكام الكتاب والسنة، فهذه الأحكام مستنبطة من القرآن والسنة والإجماع، وما زاد عليها فهو فروع عنها، ومستخرج منها خروج الجنين من رحم أمه.

فإذا كان الأمر كذلك، فما هو المحظور الشرعي في ذلك، خاصة إذا علمنا، كما اشرنا قبل قليل، الى أن كتب الفقه المدونة والمختصرات منها على على وجه الخصوص، قد اختصرت على شكل أحكام مأخوذة من نصوص الكتاب والسنة، لكي يسهل فهمها وحفظها على الطلاب، والعبارات التي فيها هي من إنشاء المجتهدين.

فما الفرق بين هذه المختصرات الفقهية وبين الأحكام المدونة على شكل مواد من ناحية التقريب والتسهيل؟ فهما متماثلان، ولا يصح التفريق بين المتماثلين. بل هذه الطريقة هي أكثر عدلا وأسرع حلا للمشاكل، فالقضاء لدينا، أعني في المملكة العربية السعودية، يطبق أحكام الشريعة ـ بحمد الله ـ وهي أحكام متعددة، مصادرها كثيرة، ووجهات النظر في كثير من مسائلها متباينة، لما تحتمله نصوصها من المعاني الكثيرة. وكذلك عقول البشر محدودة، وتتفاوت في مدى قدرتها على استنباط الأحكام من تلك النصوص، فتتضارب الأحكام في كثير من الأحيان يسبب مفاسد متعددة. هذا ما رغبنا ايضاحه الآن، وفي الاسبوع المقبل بحول الله، نذكر أدلة جواز التدوين أو التقنين ومصالحه.. ثم نقاش أدلة المعترضين.

* فقيه سعودي ومستشار قضائي

في وزارة العدل السعودي