موت الشرطي الشاعر..!

TT

عرفت محمد الماغوط منذ أكثر من خمسين سنة. فقد حل محل المحامي نجاة قصاب حسن في تحرير الزاوية الساخرة في صحيفة «الرأي العام» الدمشقية التي كنت سكرتيرا لتحريرها. وأدهشنا الساخر المجهول. فقد أكمل مسيرة مصطفى أمين كاتب مصر الساخر الأول آنذاك. وكلاهما كتب السخرية بالفصحى في زمن كان الظن الشائع ان العامية هي لغة السخرية الوحيدة.

ثم غاب الماغوط عنا أعواما هاربا الى لبنان. فقد لاحقته الدولة بتهمة الانتماء للحزب السوري القومي الذي اغتال اللواء عدنان المالكي رجل الجيش القوي. وكانت علاقة الماغوط بآيديولوجيا الحزب النافية للعروبة، لا تتجاوز علاقته بالمدفأة في مقر الحزب الفرعي في السلمية. فقد كانت تنفي عن ابن القرية برد الفقر المدقع.

غاب الماغوط عني كاتبا مجهولا، وعاد من لبنان شاعرا معروفا. لم تربطني بالماغوط صداقة قوية، لكن كنا نلتقي يوميا على غير موعد. كنا رفاق السهر في النادي الليلي. ثم أعثر عليه في الصباح في مقهى «الهافانا» الشهير برواده من مثقفين وأدباء ومدنيين وضباط عاملين ومتقاعدين. وكان الصمت العلاقة التي تربطني به. كنت مثل الماغوط لا أحب ثرثرة المثقفين ونزاعات الأدباء الطفولية.

كان الماغوط الذي عرفته شابا خجولا رقيقا، في غاية الأدب المهذب في التعامل مع الآخرين. بل كان وسيما، لكنه رسم على وجهه الهادئ كل الحزن والمرارة اللذين تدفقا في شعره وكتاباته.

ما زلت أذكر اني اعتقلت مرة مع الماغوط. فقد دهمت النادي دورية شرطة رأت أن تسلي ليلها الطويل باقتحامه. واختار الضابط قائد الدورية أربعة من الساهرين لسوقهم الى «العدالة»: أنا والماغوط وزهير ميداني أحد ظرفاء دمشق، ورابعا نسيته لعله مدير النادي.

أدخلنا الضابط على رئيسه العقيد ممتاز الفتيِّح قائد شرطة دمشق المناوب. دهش الرجل لمرآنا. فهو زميل الدراسة لي، ويعرف الماغوط شخصيا. استشاط غضبا. رمى قبعته في وجه الضابط وهو ينهره: «ألم تجد في دمشق كلها غير هؤلاء تأتيني بهم؟». وأمره بأن يعد القهوة لنا بنفسه عقابا له.

زدت أنا في غيظ العقيد والضابط. أشرت الى الماغوط الصامت الذي يلازمه خوفه الدائم من السجن والاعتقال. قلت لهما ان «العقيد» الماغوط هو الآن رئيس تحرير مجلة «الشرطة». وكانت أحوال الماغوط المادية قد تحسنت. لم يكن راضيا عن منصبه «الأمني». لكن الضباط الذين باتوا مشاركين في السلطة وجدوا في المنصب ما يقي ابنهم عوز الحاجة.

في الزمن الرديء، لم يكن الماغوط طائفيا. كان معذبا بوطنيته وفقره وتشرده وغضب الدولة عليه. ثم تعذب برضاها عنه وتكريمها له: «لا شيء يعذبني مثل المديح».

كتب الماغوط في كل ألوان الأدب. كان مجليا في المسرحية والشعر والأدب السياسي والاجتماعي الساخر. وظنه النقاد والصحافيون مثقفا كبيرا. يرد هو: «لا مشروع ثقافي لدي. لا نظرية شعرية. لا حلم أريد تحقيقه... أنا لست مثقفا. شهادتي متوسطة زراعية».

لم يكن الماغوط يبتسم وهو الذي أضحك الناس والدولة والأبرياء والجلادين، إنما مرارته الساخرة تنطلق من نفس مرهفة عانت من الظلم المبكر، وترجمت هذه المعاناة في السخرية، بفن أدبي مصقول يصعب على الكتاب الساخرين تقليده في رشاقة تركيب ونحت المفردات المتناقضة.

عرفت الماغوط عاشقا للحياة، بقدر ما كان هاربا من الأحياء. «أنا لا أكره أحدا، ولا أحب أحدا... لم أكره ولم أحب في حياتي سوى الفقراء». عندما لاحقته الدولة هرب منها الى المنفى. عندما جاءته الشهرة والمال تكاثرت عليه أمراض الشيخوخة. يحمل عصاه وسيجارته ويعتمر قبعته «الكاسكيت»، ويمضي الى مقهى «أبو شفيق» المعلق فوق صديقه بردى الذي يشق طريقه بين صخور الجبل. هناك يمارس حريته في الشعر والسخرية.

في غربة الماغوط، لم يكن له صديق. كان شاكّا مرتابا. كان صادقا في رؤيته وفي نقده. لم يوفر الشعراء في أحاديثه الصحافية: «شعر نزار قباني لا يختلف عن أي تصريح رسمي لأي مسؤول حكومي». محمود درويش «شاعر موهوب، لكنه غير صادق». «ربما لو كنت مثقفا وتعلمت لغات أجنبية لكتبت طلاسم مثل أدونيس».

أعتقد أن الماغوط هو الشاعر وأدونيس هو الناثر. وإذا كتب لشعر النثر الخلود، فلا شك ان الخالد هو الماغوط وليس أدونيس وتلامذته.

أشد ما أحببت في الماغوط وشعره كونه إنسانا على سجيته. في قلبه نبل معذب بالحزن الدائم. لكن أحسب انه كان شديد الإفراط في التشاؤم الاسود الذي لا يصلح أنموذجا للأجيال والأدباء والشعراء.

مات العقيد ممتاز الفتيح. ومات الظريف زهير ميداني. وها هو محمد الماغوط يموت وهو آسف: «أعتقد أن أكبر خطأ ارتكبته في حياتي هو أني تقدمت في العمر، ولم أمت باكرا كما فعل السياب».

أما أنا فأكبر خطأ ارتكبته اني بقيت على قيد الحياة لأرثي الأصدقاء. عذاب كبير للنفس وللقلب أن تقول في الرثاء ما للراحلين وما عليهم.